والتنغيم بهذا الشكل يلعب دوراً رائعاً في تغيير دلالات الجمل من تركيب إلى آخر، ومن باب إلى باب مثلما نجد أنفسنا في زخم دلالي وسياقي عند قراءة قوله تعالى: (قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ) (). فالنغم الموسيقي في هذه الآية له دلالة كبرى في الكلام. فالتنغيم في الجزء الثاني من الآية يُعَدُّ محوراً رئيساً في تحديد التركيب. فيمكن أن نقرأ كما يلي:
- جملة (قالوا جزاؤه) بنغمة الاستفهام، أي: ما جزاؤه؟!
- وجملة (من وجد في رحله فهو جزاؤه) على التقرير جملة واحدة.
- ونقرأ على التعجب والاستهجان (قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه).
- ونقرأ على التبرم والانزعاج (من وجد في رحله فهو جزاؤه).
وهكذا في تقليبات تنغيمية في سياق الآية دون المساس بالأصل الدلالي، بل يتم التنويع في إطار هذا الأصل الدلالي ودون العدول عنه. وعلى هذا فإن المستويات الثلاثة المشكلة لجوهر الإيقاع من مقاطع ونبر وتنغيم هي في جوهرها منظومة متكاملة للمعنى الإيقاعي في سياق النص القرآني. كما أنها تسهم في إضفاء لمسة نظمية على سياق الإيقاع من ناحية، وتشييد بعد جمالي في إطار هذا النظم من ناحية أخرى، وما ذاك إلا تنويع على الوتر الصوتي الذي يمثله هذا المفهوم.
ويجب أن نقرر أن التعامل مع المستوى الأول من مستويات الإيقاع وهو المستوي (الكمي) هو الأكثر حضوراً في هذا السياق، وإن كان ذلك لا يمنع حضور المستويين الآخرين بشكل ضمني في سياق هذا المستوى. كما أنه يمكننا اعتماد الإيقاع كبنية بلاغية تنطلق من كون (الوزن) أساسه التعامل مع الكلمة، في حين أن الإيقاع لا يتعامل مع الكلمات، بل إن أساسه (الجملة الواحدة). وهذه البنية البلاغية تتمثل في مستويين هما ():
أ - المستوى الصوتي: ويهدف هذا المستوى إلى توظيف الجماليات البلاغية في إطار إيقاعي، مثل توظيف فنون البديع الصوتية (الجناس، والتكرار، والتوازي، التضمين، والمشاكلة، ورد الإعجاز على الصدور، والترديد) وغيرها مما سنتناوله فيما بعد.
ب – المستوى الدلالي: حيث يتم هنا استثمار دلالات التراكيب على المستوى الإفرادي (ما يخص الكلمة كالطباق)، وعلى المستوى الجملي (ما يخص التركيب كالمقابلة، والتقديم والتأخير، والفصل والوصل) وغير ذلك.
وبتعاضد هذين المستويين تتشكل بنية الإيقاع البلاغي بما يحمله من خصائص مائزة ومميزة تسهم في إبراز جمالية الأداء الصوتي، وما يلحقها من تأثيرات سياقية.
الإيقاع القرآني:
كما علمنا فإن الإيقاع يحدث بالإفادة من جرس الألفاظ وتناغم العبارات لإحداث التوافق الصوتي بين مجموعة من الحركات والسكنات لتأدية وظيفة سمعية والتأثير في المستمع. ويأتي الإيقاع من اختيار الكلمات من حيث كونها تعبر عن قيمة التأثير الذي تحدثه وظيفة الكلمة في مدلولها الإيقاعي، فهو إحداث استجابة ذوقية تمتع الحواس وتثير الانفعالات (). كما أن عدد الكلمات التي تكون الإيقاع بتركيباتها تعتمد تماماً على عدد الكلمات اللازمة لتوصيل المعنى في النثر.
والقرآن الكريم يمتاز في كل سورة منه وآية، وفي كل مقطع منه وفقرة، وفي كل مشهد فيه وقصة، وفي كل مطلع منه وختام بأسلوب إيقاعي فني (). فالعربية لغة موسيقية، والقرآن الكريم يسير على سنن العربية وأساليبها في التعبير فتميز أسلوبه بالإيقاع المعجز والجرس اللافت للنظر.
والإيقاع في القرآن الكريم صورة للتناسق الفني، ومظهر من مظاهر تصوير معانيه، وآية من آيات الإعجاز الذي يتجلى في أسلوبه المتميز. ويحوي القرآن الكريم إيقاعاً موسيقياً متعدد الأنواع ليؤدي وظائف جمالية متعددة إذ " إن الأثر الممتع للإيقاع ثلاثي: عقلي، وجمالي، ونفسي. أما العقلي فلتأكيده المستمر أن هناك نظاماً ودقة وهدفاً في العمل. وأما الجمالي فلأنه يخلق جواً من حالة التأمل الخيالي الذي يضفي نوعاً من الوجود الممتلئ في حالة شبه واعية على الموضوع كله. وأما النفسي فإن حياتنا إيقاعية: المشي والنوم والشهيق والزفير وانقباض القلب وانبساطه " ().
¥