أما التنغيم أو التغني فأمر آخر مختلف، إنه فن المقرئ الخاص، وكيفية أدائه للقرآن، مظهر من مظاهر الإبداع، أو محاولة من المرتل لإظهار براعته، علاوة على تعميق أثر النص الذي يقرؤه في نفوس سامعيه، وبهذه الدلالة للتغني يكون أقرب إلى الموسيقى منه إلى التلاوة، فهو والغناء صنوان يلتقيان في الأصل الإيقاعي وفي الجذر اللغوي ثم يفترقان أو يتخالفان.
ثالثاً: مصدر المتلقي:
لا شك أن في القرآن نوعاً من الموسيقى الخفية تلفظ ولا تشرح، لكن كيف ندرك هذه الموسيقى، وهذا الإيقاع؟ وهذا التساؤل يلحق به تساؤل آخر مكمل له هو: كيف نتلقى القرآن؟ فالدراسات النفسية والجمالية لعملية التلقي تثبت أن تركيب الأثر الفني لا يكون تاماً ولا كاملاً إلا إذا التقت في رحابه وتداخلت طاقتان الطاقة الكامنة في النص والطاقة المنبثقة عن التلقي ().
والتقاء عالَم النص وعالَم المتلقي أمر ضروري لحياة النص، فللنص حياة تعج بالحركة والامتداد بما يحمله من كلمات تعبيرية وصور فنية، وقيم موسيقية، وتركيبات بلاغية. أما عالم المتلقي فله حياة وخبرات جمالية وثقافية تتصف هي الأخرى بالحركة والتقابل والامتداد. ومن خلال عملية الإدراك تتصالح الحياتان، وتلتقي الطاقتان؛ الطاقة الكامنة في النص، والطاقة المنبثقة عن القارئ، ولن يكون التلقي كاملاً، ولن يدرك القرآن إدراكاً كاملاً، إلا إذا تداخل العالمان وتناغما.
فالقرآن يملك قيمه الروحية والفنية الخاصة به، وهذه القيم لا تحضر إليه أو تفرض عليه، والمتلقي الذي يكابد قراءته وتدبره، ويعيش عالمه، ويحلله لا يجلب معه قيماً يتخيلها، أو لا يفترض في النص الذي بين يديه قيماً غير موجودة، إنه يكشف القيم الكامنة فيه. وفي حالة القرآن تبدو العلاقة بين النص وقارئه أقوى لأن الأمر يتعلق بالإيمان، بتلك الحالة النفسية التي اشترط بعضهم وجودها لإدراك ما في الكتاب من جمال ومن أداء ومن إعجاز. وحين يعايش المتلقي عالم الإيقاع القرآني يجد نفسه في واحد من أربعة مواقف ():
1 - أن يشعر بالإيقاع وجوداً ونوعاً ويعلله.
2 - ألا يلاحظ شيئاً اسمه إيقاع.
3 - أن يرى تناقضاً بين المعلومات التي يعرفها عن الإيقاع وهذا الذي يجده في النص.
4 - أن يحس الإيقاع ولكنه لا يستطيع أن يشرحه ويعلله، أو يحدد مصدره.
فالموقف الأول منطقي ومتماسك، والثاني يشير إلى أن إحدى الطاقتين الكامنة أو المنبثقة معطلة، والثالث يدعونا إلى أن نجعل من معلوماتنا أداة موظفة لخدمة الإحساس وإلا حكمنا بفسادها ولو جزئياً إذا ناقضته، أما الرابع فقد أغنانا عن التعليق عليه الخطابي حيث ذهب في رسالته عن إعجاز القرآن) إلى أن (السبب قد يخفى وأثره في النفس واضح، وهذا لا يقنع في باب العلم) ().
ودون أن نصل إلى ذلك نقول أن مجرد المحاولة لتلمس الظواهر الإيقاعية في التعبير القرآني مهما خفيت تظل ضرورية بغض النظر عن نتائجها. وتظل موسيقى القرآن هي موسيقى النفس، ويظل الإيقاع هو المعبر عن حالات تلك النفس، ويرتبط بحركة شعورها، لأنه في حقيقة الأمر هو صوت النفس البشرية، صوت حالاتها المتباينة، صوت فرحها وحزنها، أملها ويأسها، غضبها وسعادتها. لقد صور حركة إحساسها، وكان صدى مشاعرها وانفعالاتها، وبلغ في ذلك الغاية، وأربى على الغاية تعبيراً وتأثيراً.
الهوامش:
1. - نديم الوزة، مدخل إلى الإيقاع الداخلي للشعر، 21.
2. - أوستن وارين ورينيه ويلك، نظرية الأدب، ترجمة: محيي الدين صبحي، دار القلم، دمشق، 1988، 225.
3. - د. كمال أبو ديب، في البنية الإيقاعية للشعر العربي، 221.
4. - جان كوهن، بنية اللغة الشعرية، ترجمة: محمد العمري ومحمد الولي، دار توبقال، الدار البيضاء، 1986، 84.
5. - د. سيد البحراوي، الإيقاع وعروض الشعر العربي، 111.
6. - د. محمد العياشي، نظرية إيقاع الشعر العربي، دار الكتاب العربي، دمشق، 1986، 90.
7. - جاكوبسن، قضايا الشعرية، 19.
8. - د. سيد البحراوي، الإيقاع وعروض الشعر العربي، 245.
9. - ينظر: ليلى الشربيني وسيد البحراوي، إنتروبيا الإيقاع في العربية، مجلة فصول، القاهرة، مج 15، ع 4، شتاء 1997، 270.- د. سلمان العاني، التشكيل الصوتي،133.
¥