حديث: (سَوْدَاءُ وَلُودٌ خَيْرٌ مِنْ حَسْنَاءَ لا تَلِدُ)، وهو عند الطبراني، رحمه الله، في "الكبير" من حديث: بهز بن حكيم عن أبيه عن جده.
ففيه مجاز بحذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، فتقدير الكلام: امرأة سوداء ولود خير من امرأة حسناء لا تلد، ولهذا جاز الابتداء بالنكرة، لأنها قد خصت بالوصف، والتخصيص نوع تعريف يسوغ الابتداء بالنكرة المخصوصة.
ومثله قوله تعالى: (أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ)، أي: دروعا سابغات، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه.
ومنكر المجاز يجيب على ذلك أيضا: بأن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه أمر قد اطرد هو الآخر في لغة العرب، فالمخاطب يدرك مراد المتكلم ابتداء، بقرينة السياق: "ولود"، فالمقصود بداهة: الآدمية الولود، و: "السابغات" هي الدروع التي تغطي جسد المقاتل، فلا يضطر إلى إعمال ذهنه في علاقات وقرائن المجاز العقلية.
*****
وحديث: (فَالْزَمْهَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا):
ففيه كناية عن بر الأم وطاعتها والخضوع لها، والكناية لا تمنع إرادة المعنى الأصلي، كما قرر البلاغيون، فلا مانع من الجمع بين لزوم قدميها حسا، والخضوع لها معنى، وقل بل عُدِم من يفعل ذلك في زماننا إلى من رحم ربك!!!.
*****
وحديث: (لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهُورٍ)، وهو متكلم في إسناده، إذ أعل بعَمْرُو بْنُ شِمْرٍ وَهُوَ مَتْرُوكٌ وَجَابِرٌ الْجُعْفِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، كما ذكر الشوكاني، رحمه الله، في "نيل الأوطار".
فقد قرر البلاغيون: حمل النفي على أقرب المجازين: الصحة أو الكمال، إذا تعذر حمله على الحقيقة، فإن الصلاة قد وجدت حسا، وإن انتفت شرعا لاختلال شرط الطهارة، فاستحال نفي الوجود بعد الأداء، وإن لم يعتد به، فلزم حمل الكلام على أقرب المجازين وهو: الصحة، فيكون تقدير الكلام: لا صلاة صحيحة إلا بطهور، فالوصف المحذوف قد دل عليه السياق بدلالة الاقتضاء، ويقال هنا أيضا: إن في الكلام مجازا بالحذف إذ حذف الوصف وذكر الموصوف، فلزم تقدير الوصف المحذوف على التفصيل السابق.
ومنكر المجاز يقول: لا حاجة إلى هذه الطريق الوعرة، فإن مراد المتكلم قد ظهر ابتداء، فالطهارة من الحدث شرط من شروط صحة الصلاة، فيلزم من انتفائه انتفاء صحتها لا كمالها، فلا حاجة إلى القول بمجاز بعيد منتف أو قريب مثبت، لأن المخاطب قد أدرك ابتداء أن المقصود: نفي صحة الصلاة فتلزمه إعادتها.
*****
ومثله حديث: (لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ)، فإن نفي الإيمان في هذا الحديث متردد بين ثلاثة احتمالات:
أولها: نفي الإيمان بالكلية، فيكون النفي قد تسلط على الحقيقة، ولازم هذا القول: تكفير الزاني، وهذا قول الخوارج.
وثانيها: نفي الكمال الواجب، فيكون الزاني من أهل الوعيد وإن لم يكفر بكبيرته إلا إذا استحلها.
وثالثها: نفي الكمال المستحب، فيكون هو وتارك النافلة سواء!!!، وهذا قول ظاهر البطلان.
فصار اللفظ مجملا لازدحام المعاني فيه، فلزم طلب المرجح من خارج:
فقد دلت النصوص الأخرى، كنصوص الحدود، على أن الزاني لا يكفر بكبيرته، وإلا كان مرتدا يجب حده حد الردة، فلما قرر الشارع، عز وجل، لكبيرته حد آخر غير حد الردة علم يقينا أنه مسلم عاص.
فضلا عن كون الاسم المطلق، ينصرف في الغالب إلى معنى الكمال منه، فيكون تقدير الكلام: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن كامل الإيمان الواجب، فدل بمفهومه على أن إيمانه قد انتقص منه بقدر جنايته فصار من أهل الوعيد وإن لم ينتف عنه أصله.
ومنكر المجاز يقول: لا حاجة إلى هذه التقديرات، لأن في جمع نصوص الوعد والوعيد غنى عنها، فالمعنى قد ظهر ابتداء، فصار معلوما أن الزاني: مؤمن بما معه من التصديق والإقرار، فاسق متوعد بكبيرته.
*****
وقد تدل القرائن الخارجية في بعض الصور على إرادة المجاز البعيد كقول علي رضي الله عنه: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد).
فإن نفي الصلاة في هذا الحديث متردد هو الآخر بين ثلاثة احتمالات:
أولها: نفي الصلاة بالكلية، وهذا مناف للحس، لأن الأداء قد ثبت فلا سبيل إلى رفعه.
وثانيها: نفي الصحة، فتكون صلاة المنفرد بلا عذر باطلة، وهذا قول الظاهرية رحمهم الله.
وثالثها: نفي الكمال، فيكون المنفرد بلا عذر، آثما من جهة تركه الجماعة بلا عذر شرعي، مثابا من جهة: أدائه الواجب، فآلت المسألة إلى انفكاك الجهة، فصلاته غير كاملة، وإن كانت صحيحة مجزئة.
فدلت القرينة الخارجية على إرادة المجاز البعيد: نفي الكمال، لأن من صلى منفردا بلا عذر صلاة استوفت الشروط والأركان فقد برئت ذمته بأداء الفرض، وإن استحق الإثم من جهة أخرى على التفصيل المتقدم.
ومنكر المجاز يقول هنا أيضا: القرينة الخارجية في حد ذاتها تدل على المعنى المراد دون حاجة إلى تكلف مجاز.
والخلاف بين مثبتي المجاز ومنكريه يضيق ويسوغ إذا اقتصر فيه على مسائل اللغة والأحكام، دون خوض في مسائل الغيب والإيمان والقدر، فقد كان المجاز أحد الطواغيت التي سلطها أصحاب المقالات المحدثة على نصوص الوحي في مسائل كـ: صفات الله، عز وجل، فهي عندهم مجاز!!!، والإيمان فهو عندهم: حقيقة في التصديق مجاز في الأعمال فأخرجوها منه، والقدر فأفعال العبد عندهم إنما تنسب إليه على جهة المجاز لا الحقيقة، وإنما الفاعل حقيقة: الله، عز وجل، فسلبوا العبد إرادته، وصيروه مجبورا غير مختار، وكلما ضاق بهم الأمر اتسع بحجة: المجاز!!!!، وصار هذا مسوغا لأصحاب المقالات المغلظة، كالفلاسفة وغلاة الباطنية والصوفية، تأويل كل النصوص بما فيها نصوص اليوم الآخر التي أجمع أهل القبلة بمختلف نحلهم على إجرائها على ظاهرها.
وقرينة المجاز: قرينة عقلية في الغالب فلا عمل لها في عالم الغيب، إذ العقل لا يدركه ليقيم علاقة بينه وبين عالم الشهادة، وهذا رأي أحد الفضلاء المعاصرين، وهو أكاديمي متخصص في علوم البلاغة، في هذه المسألة الشائكة، لخصته كما فهمته، وهو رأي جدير بالتأمل.
والله أعلى وأعلم.
¥