لكن أجمل ما قال العلوي هو ما ذكره من حكمة دقيقة، وفهم راق لأسرار" التقديم والتأخير القرآني" قوله: " اعلم أنه إذا كان مطلع الكلام في لإفادة معنى من المعاني ثم يجيء بعده ذكر شيئين و أحدهما أفضل من الآخر، وكان المفضول مناسباً لمطلع الكلام، فأنت ههنا بالخيار، فإن شئت قدمت المفضول لما له من المناسبة لمطلع الكلام، وإن شئت قدمت الفاضل لما له من رتبة الفضل، وقد جاء في التنزيل تقديم (السماء) على (الأرض)، وتقديم (الأرض) على (السماء)، وكل واحد منهما تحته سر ورمز إلى لطائف غريبة، ومعان عجيبة " (). وقد أجاد في هذا التحليل الدقيق حقاً، مما يدل على فهم واع راق لهذا اللون من " التقديم والتأخير".
غير أن أهم ما يسترعي الانتباه في هذا المقام هو كلام ابن النقيب الذي يرى في هذا النوع من " التقديم والتأخير" نوعاً من التكافؤ فيسميه (ما يتكافأ تقديمه وتأخيره). يقول ابن النقيب: " قال بعض العلماء في قوله تعالى: ? وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ? يوسف (24) إن في الكلام تقديما وتأخيرا تقديره: (ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه هم بها). وهذا حسن، لكن في تأويله قلق. ولا يضطر إلى هذا التأويل إلا على قول من قال: (إن الأنبياء معصومون من الكبائر والصغائر). وأما على قول من قال: (إن الصغائر يجوز وقوعها منهم) فلا يضطر إلى هذا التقديم والتأخير " ().
فهو هنا يربط بين جوانب اعتقادية خاصة بأحوال الأنبياء وما يجوز لهم من العصمة المطلقة على رأي الجمهور، والعصمة من الكبائر فقط على رأي بعض الأحناف والحنابلة، وبين تأويل التقديم والتأخير في الآية وفقاً لهذا الاعتقاد (). وإن ظل التساؤل قائماً: كيف يتكافأ " التقديم والتأخير" في هذا النوع؟ وكيف نقول أن قوله تعالى: ? فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى ? سورة الأعلى آية رقم (5) هي هي في السياق نفسه إذا قلنا – في غير القرآن -: (فجعله أحوى غثاء). وفي قوله تعالى: ? اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ القَمَرُ? سورة القمر آية رقم (1) هي هي في السياق نفسه إذا قلنا – في غير القرآن -: (انشق القمر واقتربت الساعة).
إن ابن النقيب في هذا التوجه يلغي جماليات متولدة من توظيف هذا النوع من " التقديم والتأخير المعنوي" بل وينسفها نسفاً عندما يقول بالتكافؤ، وهذا رأيه وله كل الاحترام في هذا الاجتهاد وإن جانبه الصواب.
تلك هي أنواع " التقديم والتأخير المعنوي" وقفنا فيها على أهم إشارات العلماء وتلميحاتهم وتحليلاتهم في هذا السياق، وما نتج عن هذه الوقفات من جماليات في النص الجزئي والكلي معاً.
هوامش البحث:
1. - سورة الإسراء: آية رقم (36).
2. - سورة الأنعام: آية رقم (1).
3. - سورة البقرة: آية رقم (164).
4. - سورة الأنعام: آية رقم (130).
5. - سورة الأنعام: آية رقم (112).
6. - السهيلي، نتائج الفكر، 266.
7. - الإسكافي، درة التنزيل وغرة التأويل، تحقيق: د. محمد آيدين، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، 2001، 1/ 251.
8. - السهيلي، نتائج الفكر، 267.
9. - ابن الزملكاني، المُجيد في إعجاز القرآن المَجيد، 146.
10. - ابن قيم الجوزية، بدائع الفوائد، 1/ 58.
11. - العلوي، الطراز، 230.
12. - الزجاجي، الأمالي النحوية، تحقيق: عبد السلام هارون، مكتبة المدني، القاهرة، ط2، 1967، 382.
13. - السهيلي، نتائج الفكر، 267.
14. - نفسه.
15. - نفسه، 272.
16. - ابن الأثير، المثل السائر، 2/ 35.
17. - السابق، 2/ 43.
18. - نفسه، 2/ 43 – 2/ 45.
19. - ابن الأثير، المثل السائر، 2/ 45.
20. - سورة العنكبوت: آية رقم (38).
21. - ابن الزملكاني، المجيد في إعجاز القرآن المجيد، 146.
22. - ابن النقيب، مقدمة تفسير ابن النقيب، تحقيق: د. زكريا سعيد، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1995، 167.
23. - السابق، 169 - 171.
24. - السابق، 171.
25. - الطيبي، التبيان في البيان، 287 – 291.
26. - سورة غافر: آية رقم (28).
27. - الطيبي، التبيان في البيان، 289.
28. - سورة يس: آية رقم (39).
29. - الطيبي، التبيان في البيان، 289.
¥