غدائرهُ مستشزراتٌ إلى العلا تَضِلّ المَدَارَى في مثنى ومرسلِ
إذ ردوا الثقل فيها إلى توسط (الشين) بين التاء والزاي.
ويرى الدسوقي (ت 1230 هـ) " سبب الثقل فيها راجع إلى توسط الشين المهموسة الرخوة بين التاء المهموسة الشديدة فاختلفتا [أي الشين والتاء] في الشدة والرخاوة، والثقل جاء من هذا الاختلاف. وبين الزاي المجهورة، فاختلفتا [أي الشين والزاي] في الجهر والهمس، والثقل جاء أيضاً من هذا الاختلاف. فالحاصل أن الشين اتصفت بصفتين: ضاربت بإحداهما - وهي الرخاوة - التاء الشديدة قبلها. وضاربت بالأخرى -وهي الهمس - الزاي المجهورة بعدها " ().فالتنافر هنا ليس لقرب المخارج، وإنما لثقل الكلمة في السمع نظراً لهذا الاختلاف في صفات الحروف المؤلَّفة منها اللفظة، وتضارب هذه الصفات.
ثانياً: التنافر في الكلام المركب
ويقصد به أن تكون الكلمات المركبة في سياق ما ثقيلة في الأداء الصوتي في صورتها المركبة والمفارقة لوضع كل كلمة في هذا التأليف في صورتها المفردة، وذلك بالرغم من كون هذه المفردات في صورتها المفردة تتميز بفصاحتها. ويقسم البلاغيون التنافر في الكلام المركب إلى:
1– تنافر شديد: ناتج عن التقاء كلمات ذات مورفيمات صوتية متشابهة في المخرج الصوتي، كما في قول الشاعر:
وقبرُ حربٍ بمكان قَفْرُ وليس قُرْبَ قبرِ حربٍ قَبْرُ
فتركب الألفاظ في هذا البيت أدى إلى تنافره، وذلك لتقارب ألفاظه التي يعسر النطق بها من ناحية، ولتداخل حروف هذه الألفاظ مع بعضها البعض من ناحية أخرى ().
2 - تنافر خفيف: وهو ناتج عن تكرار وحدات صوتية (كلمات) متشابهة أو متقاربة المخارج في سياق كلامي واحد مثلما نجد في قول أبي تمام ():
كريم متى أمدحه أمدحه والورى معي وإذا ما لمته لمته وحدي
فتكرار كلمة (أمدحه) مرتين في الشطر الأول، وكلمة (لمته) مرتين في الشطر الثاني أدى إلى الثقل والعسر النطقي والسماعي معاً، فكلمة (أمدحه) احتوت على حرفي الحاء والهاء الحلقيين وهما متقاربا المخرج مما شكل نبواً في النطق لحِقَهُ كذلك ثقلاً في السمع. وهذا ما ذهب إليه القزويني ().
ويخالف السبكي (ت 773هـ) ما ذهب إليه القزويني إذ يرى أن اجتماع الحاء مع الهاء فصيح لوروده في القرآن الكريم وذلك في قوله تعالى: ? وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ ? (). كما أن وضع الحاء مع الهاء في بيت الشعر مختلف عن وضعهما الآية الكريمة، فالثقل في البيت في كلمة (أمدحه) ناتج عن اجتماع الحاء والهاء بعد الفتحة على (الدال)، وليس ذلك في الآية الكريمة (). وهو تعليل جميل يقصد السبكي به تنزيه النص القرآني عما يشينه مما يلحق غيره من النصوص البشرية. ويرى ابن رشيق في هذا البيت لوناً من المعاظلة التي تقوم على تداخل الحروف وتركيبها ().
تنوير:
دائماً ما يثور سؤال مفاده: هل يكون التنافر فقط ناتج عن تقارب المخارج أو تباعدها؟! والإجابة عن مثل هذا السؤال تكمن في رأي الخليل بن أحمد الذي علل هذا التنافر بالبعد الشديد أو القرب الشديد لمخارج الحروف , ونقل هذا الرأي عنه الرماني في (النكت في إعجاز القرآن) (). وتواتر البلاغيون على هذا التعليل إما شرحاً أو تأويلاً أو توسعة لهذا التعليل ().
غير أن ابن سنان لا يرى تنافراً إذا ما تباعدت مخارج الحروف كما ذهب الخليل والرماني، بل يجعل هذا التنافر محصوراً في قرب المخارج فقط ويستدل على ذلك بكلمة (ألم) التي تباعدت مخارج حروفها ومع ذلك فلا تنافر فيها. فالهمزة من أقصى الحلق، والميم شفوية، واللام متوسطة بينهما ().
أما التنافر بقرب المخرج فهو كما في كلمتي (عخ) و (لاسز) لما فيهما من قرب لمخارج حروفهما. كما يستدل على ما ذهب إليه بأن الإدغام والإبدال إنما يحدثان تخلصاً من التنافر الحادث لقرب المخارج لا لتباعدها ().
¥