أما ابن الأثير فيرى في تباعد المخارج مع اقترانها بحركات خفيفة يكون أحياناً أحسن تأليفاً من قربها في المخارج، ويعلل ذلك بأن الكلمة المتباعدة المخارج تسمح للناطق بها عند أدائها الصوتي أن يأخذ مهلة وأناة لما بين المخرج والمخرج التالي من الفسحة والبعد، فتمكن الحروف في مواضعها، بخلاف الكلمة المتقاربة المخارج فإنه عند النطق بها يحاول اللسان أن ينطقها فلا يكاد يتخلص من مخرج إلا ووقع في الآخر الذي يليه لقرب ما بينهما، فتأتي حروف الكلمة قلقة غير مستقرة في أماكنها، ولذا كان العرب يعدلون عن الأثقل في كلامهم إلى الأخف طلباً للاستحسان ().
وابن الأثير يؤصل هنا لدور الحركة في مسألة التنافر والتلاؤم والانسجام. فقد تكون اللفظة هي هي لكن تغيير الحركة يؤدي إلى نقلها من باب التنافر إلى باب التلاؤم، لأن الحركة تخلص الكلمة مما أصابها من ثقل في النطق. كما أن خفة الحركات تؤدي إلى سرعة نطقها من غير عناء. فإذا التقت حركتان خفيفتان في كلمة واحدة لم تستنكر ولم تثقل، بخلاف الحركات الثقيلة إذا توالت منها اثنتان في كلمة واحدة استكرهت واستثقلت لما يعانيه الناطق بالكلمة من مشقة في أدائها الصوتي، ولذا كانت الفتحة أخف الحركات تليها الكسرة ثم الضمة.
فالفتحة إذا كانت فوق حروف كلمة ثلاثية كان ذلك من ميسرات النطق والأداء، وإن كان وسط الكلمة ساكناً ساعد ذلك أيضاً على هذا اليسر الأدائي. غير أننا نجد في البيان القرآني كلمات وُظفت فيها حركة (الضمة) وهي حركة ثقيلة، وتتابعت في بعض الكلمات مرتين مثلما نجد في الآيات التالية من سورة القمر:
- قوله تعالى: ?حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ {5} فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ {6} ?.
- قوله تعالى: ?وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ {13} ?.
- قوله تعالى: ? كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ {18} ?.
- قوله تعالى: ?فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ {21} ?.
- قوله تعالى: ?كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ {23} فَقَالُوا أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ {24} ?.
- قوله تعالى: ?كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ {33} ?.
- قوله تعالى: ? وَلَقَدْ أَنذَرَهُم بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ {36} وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ {37} ?.
- قوله تعالى: ? فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ {39} ?.
- قوله تعالى: ? وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ {41} ?.
- قوله تعالى: ? سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ {45} ?.
- قوله تعالى: ? إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ {47} ?.
- قوله تعالى: ? وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ {52} ?.
فالكلمات (النُذُر- نُكُر- دُسُر- نُذُر- سُعُر- الدُّبُر- الزُّبُر) توالت فيها حركتان ثقيلتان؛ ضمتان ومع ذلك لا يستطيع أحد أن يُنكر فصاحتها أو خفتها على اللسان حين الأداء الصوتي لها، كما أننا لم نجد زاعماً يزعم نبوها في السمع.
ويلاحظ أن هذه الكلمات وردت على هيئة الجمع، وعلى الوزن الصرفي نفسه وهو وزن (فُعُل)، غير أنها لم تتفق مع مفردها في الابتداء بنفس حركته مثلما نجد في كلمة (خُطُوَات) في قوله تعالى: ? وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ? () التي اتبع فيها وزن الجمع الابتداء بحركة مفردها (خُطوَة) وهو الابتداء بالضم. وتقرأ (خُطُوات) بضم الطاء وهي قراءة حفص، وقرأ شعبة والباقون (خُطْوات) بالإسكان (). وهي تتكون من مقطعين هما (خُطْ + وات)، وقد حوفظ فيها على سلامة المفرد، وخفة اللفظ.
ويرى د. صبري المتولي " أن الأصل في جمع هذا الدرب من المفردات يكون بالإبقاء على العين ساكنة خلافاً لما يراه بعض الصرفيين ()، وما عدل الناطق عن هذا الأصل إلا التماساً لجمال صوتي يجري وفق قانون الاتباع في الحركات " ().
¥