فابن جني يرى في تباعد تأليف الحروف مزية كبيرة لا تتحقق في تقاربها المؤدي إلى قبحها خاصة إذا كانت من حروف الحلق. ولذا جعل تأليف الكلام على ثلاثة أنواع ():
الأول: تأليفه من حروف متباعدة المخارج. وهذا أحسن الكلام، وهو أغلب كلام العرب.
والثاني: تأليف الكلام من الحروف المتقاربة المخارج. وهو تالٍٍٍٍ للأول في الحسن.
والثالث: تأليف الكلام من الحروف المتقاربة. وهو الأقل في الحسن.
ويقرر ابن دريد (ت 321هـ) أن قرب مخارج الحروف يؤدي إلى الثقل في النطق عكس المتباعد منها. كما أنه يستثقل حروف الحلق لأنه لو نسج الكلام منها دون حروف الذلاقة لأدى ذلك إلى زيادة الجهد المبذول من جانب اللسان لأداء هذه التراكيب، ذلك لأن الجرس الصوتي لها واحد، والحركات مختلفة، مما يؤدي باللسان إلى الانحراف في النطق ببعض هذه التراكيب والأصوات ().
وابن منظور (ت 711هـ) يجعل الحروف التي يتألف منها الكلام أربعة أقسام هي ():
الأول: حروف يجب وقوعها في التراكيب، وهي الحروف الذلقية والشفوية. وذلك لخفتها وسهولتها في النطق، ولذلك كثرت في أبنية العرب وكلامهم خاصة الثلاثي.
والثاني: الحروف التي تحسن في التراكيب وهي (القاف) و (العين) لأنهما أطلق الحروف. فالعين أنصع الحروف جرساً. والقاف أمتن الحروف، وأصحها جرساً.
والثالث: الحروف التي يمتنع مجيئها في التراكيب، وهي الحروف ذات المخرج الواحدكحروف الحلق، إلا أن يقدَّم حرف منها على الآخر، ولا يجتمعا إذا تأخر.
والرابع: الحروف التي لا تتركب مع بعضها بلا تقدم أو تأخر وهي (السين، والتاء، والصاد، والزاي، والظاء) وما ذلك إلا لتقارب مخارجها تقارباً يؤدي إلى ثقلها الأدائي، ومعاظلتها في النطق.
وتخلصاً من هذا آثر العرب استعمال الثلاثي بعد مراعاة تأليفه من حروف متناسقة حسب القواعد، وذلك لقلة حروف الثلاثي، وكون عينه تتوسط (الفاء) و (اللام). فالفاء لابد أن تكون متحركة، ولامه لابد أن تكون ساكنة عند الوقف، لأنه لا يصح الابتداء بساكن، كما لا يوقف إلا على ساكن ().
ويرى ابن جني أن العرب اختلست الحركات اختلاساً لطيفاً، ولم يمكنوها في أماكن كثيرة بعداً عن الثقل، وطلباً للخفة الصوتية (). نلمح ذلك في قراءة أبي عمرو لقوله تعالى: ?يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ? () مختلساً غير محقق (). فقد تم اختلاس حركة (النون) وهي الضمة للتخفيف ().
ونخلص من هذا إلى أن الفكرة الرئيسة التي يتلاقى عندها أهل اللغة والبلاغة معاً هي التخلص من مسببات التنافر لأن ذلك ضروري ومقرر. كما أن فكرة بعد المخارج أو قربها هي أول درجات التنافر، يشاركها في ذلك السياق، والذوق، والحركات الإعرابية لتكتمل بذلك الصورة العامة لمسببات التنافر والثقل، وهذا ما عالجه أهل اللغة والبلاغة معاً كل في سياقه الخاص.
الهوامش:
1 - ينظر: الجاحظ، البيان والتبيين، 1/ 65 – 66. – القزويني، الإيضاح، 2.
2 - ينظر: السابق، 1/ 69.
3 - ينظر: الرماني، النكت في إعجاز القرآن، 94.
4 - مجهول، شرح رسالة الرماني في إعجاز القرآن، تحقيق: د. زكريا سعيد، دار الفكر العربي، القاهرة،1997،59.
5 - ينظر: الباقلاني، إعجاز القرآن، 270.– د. عبد الواحد الشيخ، التنافر الصوتي والظواهر السياقية، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1999، 9.
6 - يذكر أنه ضرب من النبات يُتداوى به. السيوطي، المزهر في علوم اللغة، 1/ 185.
7 - القزويني، الإيضاح، 3.
8 - ينظر: ابن سنان، سر الفصاحة، 55.
9 - ينظر: السبكي، عروس الأفراح، 1/ 81.
10 - د. محمد أبو موسى، خصائص التراكيب، 62.
11 - ينظر: د. عبد الحليم شادي، بلاغة المعاني، 27.
12 - الدسوقي (محمد بن عرفة)، حاشية الدسوقي على مختصر السعد، مطبعة الهادي، بيروت، 1989، 1/ 80.
13 - د. عبد الواحد الشيخ، التنافر الصوتي، 11. وينظر: عبد القاهر، دلائل الإعجاز، 57. - الرماني، النكت، 95. – مجهول، شرح رسالة الرماني، 61.– الرازي، نهاية الإيجاز، 123.– السبكي، عروس الأفراح، 1/ 100.– د. محمد أبو موسى، خصائص التراكيب، 68.– د. محمد الخفاجي، علم الفصاحة، 141.
¥