تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والكلمات التي بين أيدينا ليست من هذا النوع؛ إذ أن مفرها لا يسير وفق هذه القاعدة، فلا خضوع فيها لقانون الإتباع؛ أي إتباع الضم بالضم، والكسرة بالكسرة، والفتحة بالفتحة، الذي يسميه ابن جني (هجوم الحركات على الحركات) (). وقد فهمنا من كلامه أن هجوم الحركة يأتي بصورة أساسية من هجوم حركة موجودة أصلاً في صيغة صرفية معينة على حركة موجودة أصلاً في البنية الأولية للمفردة. وهذا ما لم ينطبق على هذه الكلمات القرآنية في سورة القمر.

لكن هجوم الحركات على الحركات ينتقض إذا ما ارتبطت الحركة بالحرف وكانت من جنسه، فلربما يكون الثقل نابعاً من هذا الأمر. فمثلاً كلمة (جَزَعَ) تكون سهلة في متناول الأداء الصوتي إذا ما بقيت على صورتها؛ أي فتح الجيم والزاي، بخلاف ضمهما فتصبح الكلمة (جُزُعَ)، أو ضم الأول وكسر الثاني فتصبح (جُزِعَ). فهذا التغيير يُدْخِل الكلمة في دائرة الثقل النطقي، وصعوبة الأداء الصوتي رغم أن المخارج ثبتت ولم تتغير. ونستنج من هذا أن هناك عامل آخر سَوَّغَ مثل هذا التنافر أو نفاه ألا وهو (الذوق). فربما نجد أنفسنا نستسيغ الكلمة السابقة وهي مفتوحة الجيم والزاي، وربما نستسيغ ضم الأول والثاني، لكننا نتردد فيما هو خلاف ذلك من أحوال للتشكيل الصرفي والحركي للكلمة ().

كذلك قد ينتفي التنافر في كلمة ما إذا ما كانت ثلاثية وسكن وسطها، لأن السكون في هذا الموضع يساعد على: التدرج في النطق أولاً بانسيابية الحركة الصوتية من ضم للحرف الأول ثم سكون الوسط انتقالاً إلى فتح الثالث. أو من ضم للأول ثم سكون الوسط إلى ضم الثالث، أو إلى أي حركة أخرى ثانياً. نلمح ذلك جلياً في قوله تعالى: ? وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ? () إذ نجد كلمة (خُسْرٍ) تم الانتقال فيها من ضم الحرف الأول (الخاء) إلى الكسر للثالث (الراء) بسهولة ويسر وذلك لسكون الوسط نزولاً على حكم الذوق السياقي الصوتي ().

كما أننا نلمح في هذا الإطار ضرباً من موسيقى الفواصل يسهم في تشييده الإدغام الذي يكسب الكلمات مذاقاً خاصاً وهو ما نلاحظه في قوله تعالى: (فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ) () فأدغم التنوين في الواو، أو كما في قوله تعالى: ? كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ ? () فالبرغم من توالي ثلاث ضمات إلا أننا لم نشعر بتنافر، ومرد ذلك كله إلى السياق الذي وقعت فيه الكلمة.

ونخلص مما سبق أن ما عده الذوق السليم ثقيلاً متعسراً في الأداء فهو كذلك، والعكس صحيح. كذلك يتم التأكيد هنا على أن للحركات الإعرابية، والسياق، والذوق، ومخارج الحروف قرباً وبعداً، كلها لها أدوار غاية في الأهمية في مسألة التنافر، لكن لماّ غلب على دراسات البلاغيين الاقتصار على مخارج الحروف فصلوا القول فيها دون غيرها، وأهملوا ما سواها رغم أهميته القصوى في سياق هذه المسألة.

التلاؤم والتنافر عند اللغويين:

تنبه اللغويون منذ بداية الدرس التحليلي لظواهر اللغة إلى مسألة (أصول الكلمات) وإقامتها على ما عُرِفَ فيما بعد بالميزان الصرفي الذي تعتمد عليه الكلمة في انبنائها. فالكلمة العربية تعتمد على جذر ثلاثي هو (فَعَلَ). وما يتم من تآليف على نهج هذا الميزان هو ضرب من التآليف الصوتية. وبناء على ذلك اهتم اللغويون بمسألة الفصاحة القائمة على قرب المخارج أو بعدها. فقد اشترطوا لذلك ضرورة مراعاة التناسب الصوتي في ترتيب مخارج حروف الكلمة. ويمكن ملاحظة ذلك الجهد المبذول في حقل البحث الصوتي عند العرب من خلال الفصل الأول لهذا البحث. لكننا نستطيع تضييق نظرتنا البحثية هنا لنركز على المسألة ذات الصلة وهي (التنافر الصوتي) وما يلحقه من قضايا ومسائل لغوية. فما كان اللغويون ليدرسوا هذه المسألة إلا ليقرروا لنا أصولاً تسهم بدورها في اجتناب العسر النطقي، والثقل السمعي، وتيسر الأداء الصوتي، بالإضافة إلى مراعاة الخفة والجمال في آن. فقد دفعهم هذا إلى تقرير مفاده: (أنّ حروف الحلق هي أثقل الحروف تركيباً)، ولذا نادوا بتقليل مجيئها في تآليف الكلمة، وأكدوا على أن تقارب حرفين حلقيين لا بد وأن يؤدي إلى تقديم أقواهما نطقاً تخلصاً من هذا الثقل.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير