تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والدراسات اللسانية والنصية الحديثة تتخذ من محددات النص - أي المكونات التي يكون بها النص نصياً – محوراً للدراسات والبحوث. والأسلوبية الصوتية التي دعا إليها كوهين ترى في توافق تام مع مقررات اللسانيات النصية أن من أهم هذه المحددات النصية عنصر (السبك Cohesion ) الذي يتحقق بفضل انسجام عناصر نحوية وعناصر معجمية ().

والنحوية هنا تتسع في دلالاتها لتشمل المستويات الصوتية والصرفية والتركيبية والدلالية. وليس هناك أدل على إدراك أهل البلاغة لمفهوم السبك من مقالة ابن الأثير حين تحدث عن العلة في تفضيل لفظ على آخر بقوله: " ومن عجيب ذلك أنك ترى لفظين تدلان على معنى واحد، وكلاهما حسن الاستعمال، وهما على وزن واحد، وعدة واحدة، إلا أنه لا يحسن استعمال هذه في كل موضع تستعمل فيه هذه، بل يفرق بينهما في مواضع السبك. وهذا لا يدركه إلا من دقَّ فهمه، وجلَّ نظره. فمن ذلك قوله تعالى: (مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) ()، وقوله تعالى: (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) () فاستعمل (الجوف) في الأولى و (البطن) في الثانية، ولم يستعمل الجوف موضع البطن، ولا البطن موضع الجوف، واللفظتان سواء في الدلالة، وهما ثلاثيتان في عدد واحد، ووزنهما واحد أيضاً، فانظر إلى سبك الألفاظ كيف تفعل؟! " ().

والنص واضح بذاته ويدلنا على مدى الفهم الواعي لمحددات الذوق البلاغي الذي كان عليه أهل البلاغة في تعاملهم مع النص القرآني، ومحاولاتهم تفسير ظواهره الأسلوبية الثرية.

والسبك المعجمي هو المنوط به تحقيق الصوتية الدلالية في نص ما، لأنه يرتكز على تصرفات الألفاظ والمفردات. كما أنه يتحقق عبر ظاهرتين لغويتين هما: التكرار ( Reiyeration ) ، والمصاحبة المعجمية ( Collocation ) وهي تلك الألفاظ المتصاحبة دوماً، بمعنى أن ذكر أحدهما يستدعي ذكر الآخر، ومن ثم يظهران معاً دوماً (). وما يهمنا هنا في هذا المقام هو الحديث عن ظاهرة التكرار بكل أشكالها مع مراعاة أن الجانب التراثي لتناول هذه الظاهرة لن يكون حاضراً بشكله، بل من خلال معطياته وفق تصنيف آخر يتضح من خلال السرد البحثي.

فالتكرار في صورته العامة عبارة عن تكرار لفظين مرجعهما واحد، أي أن الأصل المعجمي لهما واحد، دون الاعتداد بالمعنى في هذا السياق. كما " أن مثل هذا التكرار يعد ضرباً من ضروب الإحالة إلى سابق ( Anaphora) بمعنى أن الثاني منهما يُحيل إلى الأول؛ ومن ثم يحدث السبك بينهما، وبالتالي بين الجملة أو الفقرة الوارد فيها الطرف الأول من طرفي التكرار، والجملة أو الفقرة الوارد فيها الطرف الثاني من طرفي التكرار " ().

كذلك ينظر إلى التكرار من زاويتين هما: زاوية الألفاظ، وزاوية المعاني. فالتكرار من الناحية اللفظية يحقق إيقاعاً موسيقياً متناغماً، وذلك إذا كان قائماً على وحدات متساوية من الأصوات التي اتصفت بالحسن. أما إذا قام على أصوات أو ألفاظ توصف بالثقل أو الغرابة فإنها تؤدي إلى نتائج عكسية وهي التنافر والقبح السمعي (). أما التكرار من الناحية المعنوية فإنه يرتبط بالإيجاز والإطناب والمساواة، ويرتبط بصورة أوثق بمقام التلقي وأقدار المستمعين، فهو يحسن في مقامات ويقبح في أخرى.

والنص القرآني لديه المثال الأوفى في توظيف التكرار واستعماله، فهو يعتمد الإيجاز البلاغي في مخاطبة العرب أهل الفصاحة. يقول الجاحظ: " رأينا الله تبارك وتعالى إذا خاطب العرب والأعراب أخرج الكلام مخرج الإشارة والوحي والحذف. وإذا خاطب بني إسرائيل أو حكى عنهم جعله مبسوطاً، وزاد في الكلام " ().

وهذا اللون من التكرار المستعذب للأصوات التي تحدث إيقاعاً موسيقياً يختلف تماماً عن الإيقاع الناتج عن الأوزان الشعرية، والقائم على تكرار التفعيلة، وهو ناتج عن تكرار الحركات والسكنات على نحو منتظم لا يقتصر على الشعر بل يكثر أيضاً في النثر. واللسانيات النصية قدمت لنا تصنيفاً فريداً لجمالية التكرار لكن من زاوية لسانية بحته. هذا التصنيف يتمثل في أربع درجات هي ():

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير