* ففي سورة المدثر مثلاً يبدأ اللحن بإيقاع سريع حاسم وقصير. يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ {1} قُمْ فَأَنذِرْ {2} وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ {3}) ثم تتغير نغمة الإيقاع: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً {11} وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً {12} وَبَنِينَ شُهُوداً {13} وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً {14} ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ {15})، ثم يمتد أكثر ويطول طولاً لافتاً للسمع في سبع وخمسين كلمة: (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إلاَ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ {31})، ثم يعود الإيقاع كما بدأ سريعاً حاسماً بآيات قصيرة: (كَلاَ وَالْقَمَرِ {32} وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ {33} وَالصُّبْحِ إِذ أَسْفَرَ {34} إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ {35} نَذِيراً لِّلْبَشَرِ {36}).
* وفي البروج يبدأ اللحن أقل سرعة. يقول تعالى: (وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ {1} وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ {2} وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ {3} قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ {4} النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ {5} إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ {6} وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ {7})، في سبع آيات متجانسة النغمات.
ثم يسترخي الإيقاع في أربع آيات طويلة: (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ {8} الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ {9} إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ {10} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ {11}). فتحس النفس بعدها بالحنين إلى النغمة الأولى الراكضة فسرعان ما تعود بقوله تعالى: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ {12} إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ {13} وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ {14} ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ {15} فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ {16} هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ {17} فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ {18} بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ {19} وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ {20} بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ {21} فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ {22}) في إحدى عشرة آية متعانقة تحمل شدة الإيقاع الأول ودرجته وارتفاعه.
وهذا كله معنى ما نقوله من أن القرآن يلجأ إلى أسلوب التوقع والترقب بأن يلقي في النفس أولاً نغمة ما، ثم يوقع على أحاسيسها ومشاعرها توقيعات شتى، يعود بعدها إلى نغمة البداية حيث تنتظرها النفس في شوق ولهفة وحنين.
تلك هي أهم خصائص الإيقاع القرآني وما يتبعه من أنساق دلالية وسياقية في إطار الدور الإبلاغي والجمالي للنص القرآني.
الهوامش:
1. - نديم الوزة، مدخل إلى الإيقاع الداخلي للشعر، 21.
2. - أوستن وارين ورينيه ويلك، نظرية الأدب، ترجمة: محيي الدين صبحي، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، دمشق، 1988، 225.
3. - د. كمال أبو ديب، في البنية الإيقاعية للشعر العربي، 221.
4. - جان كوهن، بنية اللغة الشعرية، ترجمة: محمد العمري ومحمد الولي، دار توبقال، الدار البيضاء، 1986، 84.
5. - د. سيد البحراوي، الإيقاع وعروض الشعر العربي، 111.
6. - د. محمد العياشي، نظرية إيقاع الشعر العربي، دار الكتاب العربي، دمشق، 1986، 90.
7. - جاكوبسن، قضايا الشعرية، 19.
8. - د. سيد البحراوي، الإيقاع وعروض الشعر العربي، 245.
¥