بحثنا في الفصل الثاني عند الحديث عن الفصاحة كتلوين صوتي ما يتعلق بشروط فصاحة اللفظ المفرد؛ خاصة الشرط الأول الذي يتمحور حول ائتلاف الكلمة من حروف متباعدة المخارج تفادياً للتأليف المُشْكِل الذي قد يتكون نتيجة لقرب الأصوات في المخرج، وذلك بتفصيل هناك مكانه (). على أننا عند الاقتراب من الكلمة القرآنية في تآليفها الصوتية المتنوعة سواء بقرب المخارج أو بتباعها، وجدنا أن هناك معياراً يفرض نفسه وهو معيار (ما يستلذه السمع)، وهو المعيار الذي ألزم به ابن الأثير نفسه عند مناقشته لجمالية المفردة القرآنية. يقول ابن الأثير: " حاسة السمع هي الحاكمة في هذا المقام بحسن ما يحسن من الألفاظ، وقبح ما يقبح ... فإذا استحسنت لفظاً أو استقبحته، وُجِدَ ما تستحسنه متباعد المخارج، وما تستقبحه متقارب المخارج. واستحسانها واستقباحها إنما هو قبل اعتبار المخارج لا بعده " ().
فالأمر المعول عليه هنا هو جمالية الصوت ذاته، وهي جمالية محسوسة يحتكم فيها إلى الأذن لإدراك أركانها وأبعادها، فكأن للأذن مستوى من الاستيعاب الجمالي، فتَجْمُل الأصوات حين تفد على الأذن في هذا المستوى، وتَقْبُح حين ترتفع عنه أو تهبط دونه.
والتلاؤم الذي نقصده في معالجة الكلمة القرآنية يكمن في إثبات جمالية الائتلاف الحرفي حتى يكون للفظ حسناً في السمع، سهلاً في النطق به. وهذه العملية ليست بالآلية الجامدة بل هي عملية ذوقية تقوم على مخاطبة الفطرة، وتستدعي انتباه الحواس واستنفارها، وتيقظ الطبع.
ويرى الإمام الرُّماني أن للتلاؤم أثر جمالي في مظهر الحرف ومخبر الكلمة، ولذا يجعله مثل " قراءة الكتاب في أحسن ما يكون من الخط والحرف، وقراءته في أقبح ما يكون في الخط والحرف، فذلك متفاوت في الصورة، وإن كانت المعاني واحدة " ().
والجاحظ لم يكن غفلاً بعيداً عن تذوق الإحساس الجمالي المتولد عن التلاؤم بين الحروف إذ حدد بدقة ما يجب اقترانه منها معاً، وما لا يجب، وذلك اعتماداً على خبرته الجمالية، وذوقه البلاغي. يقول الجاحظ: " أما في الحروف فإن (الجيم) لا تقارن (الظاء، والقاف، ولا الطاء، ولا العين بتقديم ولا بتأخير. و (الزاي) لا تقارن (الظاء، ولا السين، ولا الضاد، ولا الذال بتقديم ولا بتأخير. وهذا باب كبير، وقد يستدل بذكر القليل حتى يستدل به على الغاية التي إليها يجري " ().
وهنا يثور سؤال: هل ينصرف التلاؤم إلى مجرد قبول الكلمة لحروفها الداخلية ثم لما يجاورها من كلمات، وعدم ثقلها النطقي في السياق التلفظي؟ والإجابة تكمن في كون هذا التلاؤم أعم من الحصر في هذا السياق الضيق، إذ أنه يتسع ليدرك برحابته ما يحقق التجانس الإيقاعي الموظف في هذا السياقات النصية.
كما أن النص القرآني في توظيفه للكلمة القرآنية يستخدم كلمات تقترن فيها حروف عدها أهل العربية مما لا يجب اقترانه. فمثلاً نجد (العين) تقارن (الجيم) بتقديم كما في قوله تعالى: ? وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ? () على غير ما قرره الجاحظ في هذا السياق.
والرماني حين يتحدث عن التلاؤم ودرجاته الثلاث ما بين المتنافر، والمتلائم في الطبقة الوسطى، والمتلائم في الطبقة العليا، إنما كان قاصداً أن يعود بهذا التلاؤم إلى تجانس الأصوات. ولما كانت أصوات القرآن على أتم ما يكون من التجانس، كان القرآن الكريم كله متلائماً من الطبقة العليا، وذلك بيّن لمن تأمله ().
ونظراً للطبيعة التركيبية المتفردة للعربية فإنها قد تمرست على فنية تعادل الأصوات وتوازنها، مما جعل لغة القرآن الكريم في الذروة من طلاوة الكلمة، والرقة في تجانس الأصوات والألفاظ، وما ذاك إلا دلالة قطعية على امتياز العربية في مجموع أصواتها، وسعة مدرجها الصوتي، ومقابلتها بهذه السعة ما حفلت به أصوات الطبيعة، وعدالة هذا التوزيع الصوتي المؤدي إلى التوازن والانسجام ().
وليس أدل على عبقرية التلاؤم الحرفي في النص القرآني من تأمل سياقات الابتداء بالحروف المقطعة التي تنطق بأصواتها للإفادة من هذه الصوتية عند الاستعمال دون الوقوف عند حرفيتها الجامدة. فالقرآن الكريم يفتتح (29 تسع وعشرين سورة) بحروف هجائية مقطعة، يمكن تصنيفها كما يلي ():
¥