ما وظفه القرآن الكريم من هذه المقاطع في سياقات التعبير عن المعاني المتعددة، والمشاهد التصويرية المختلفة كالتذكير والتقريع والتهديد، وإبراز مواقف التندم والتحسر، أو في مواقف الدعوة إلى الخير، ووصف النعم السابغة. نلمح ذلك في قوله تعالى: ? يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ ? (). يقول الشيخ محمد عبده: " يا أيها الإنسان السادر في غلوائه، الصادر في عمله عن أهوائه، الغافل عن مصيره، الجائر عن جادة الحق في مسيره، لا تظن أنك خالد مقيم فيما أنت له جاهد، وأنك إن آذيت الخلق، وازدريت الحق، واغتررت بالحول والقوة، وسلمت عنانك للشهوة، ضمنت لنفسك التمتع بما تكسب، والبقاء فيما تتعب وتنصب، كلا إنك مجد في المسير إلى ربك، وإن كنت لا تشعر بجدك، أو إن شعرت لهوت عنه، وكل خطوة في عمرك، فهي في الحقيقة خطوة إلى أجلك " ().
فهذا بيان لدلالة الآية وما تحويه من معانٍ وفرائد سياقية في إطار التقريع والتذكير بالمصير الذي هو غاية الإنسان عموماً. وقد عبّرت المقاطع (المفتوحة) التي تخللتها حروف المدّ الطويل، أصدق تعبير عن هذا المعنى. وهذا النوع من المقاطع يستدعي امتداد الصوت عند التلاوة مما يكسب الدلالة الصوتية فنية التعبير عن الامتداد في الزمن المستغرق في الكدح والتعب والنصب، وكأن المراد من توظيف هذه المقاطع الممدودة مشاركة الإيقاع الصوتي للآية في أداء المعنى، وبعث الإحساس لدى المخاطب بأنه لا مفرّ من هذا المصير مهما طال العمر.
كذلك يكثر توظيف المقاطع المفتوحة (الممدودة) في مواقف التلطف في الخطاب، والدعوة إلى الخير. ومن أوضح الأمثلة القرآنية على ذلك قوله تعالى: ? وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً ? ()، إذ الخطاب هنا خير معبِّر عن التزام الأدب في الحوار، والتلطف في إيصال رسالة الدعوة من جانب سيدنا إبراهيم – عليه السلام- تجاه المخاطَب في الآيات وهو (آزر)؛ إذ يدعوه إلى التوحيد، وترك عبادة الأوثان.
ونلمح تكرار النداء (يا أبت) في دلالة صريحة وجميلة على رقة هذا الخطاب الدعوي. وقد كان للمقاطع الممدودة التي ترددت بكثرة ملحوظة في الكلمات تأثير واضح في زيادة حظ هذا الخطاب من اللطافة والرقة بما تراوحت به من المقاطع المنتهية بالألف الممدودة، والمنتهية بالياء الممدودة، مما يحقق المناسبة بين المعاني والإيقاع الصوتي في هذا المقام، وذلك بما تثيره أصوات المدّ من إيقاعات موحية متموجة رخية متساوقة في الجمال والدلالة. وهكذا يكون القرآن الكريم في توظيفاته الصوتية المتنوعة.
الهوامش:
1. - ينظر: ابن سنان، سر الفصاحة، 76.
2. - سورة البقرة: آية رقم (137).
3. - سورة النور: آية رقم (55).
4. - هذه اللفظة أحد عشر حرفاً، ذلك لأن (النون) هنا مشددة، فهي بحرفين، لا كما ابن الأثير بأنها عشرة حروف فقط.
5. - ابن الأثير، المثل السائر، 1/ 188.
6. - سورة النور: آية رقم (55).
7. - نلحظ الخطأ ذاته الذي وقع فيه ابن الأثير من قبل هو هو الذي وقع فيه الرافعي إذ عدها عشرة حروف وهي أحد عشر حرفاً.
8. - سورة البقرة: آية رقم (137).
9. - الرافعي، إعجاز القرآن، 229.
10. - سورة النور: آية رقم (55).
11. - ابن الأثير، الجامع الكبير، 59.
12. - د. عبد الفتاح لاشين، من أسرار التعبير، 40.
13. - د. محمد العياشي، نظرية إيقاع الشعر العربي، 58.
14. - سورة الطارق: الآيتان رقم (13، 14).
15. - سورة المدثر: الآيات من (1 – 6).
16. - سورة غافر: آية رقم (5).
17. - القسطلاني، لطائف الإشارات، 1/ 187.
18. - د. محمد العياشي، نظرية إيقاع الشعر العربي، 321.
19. - سورة الانشقاق: آية رقم (6).
20. - الشيخ محمد عبده، تفسير جزء عم، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1987، 40.
21. - سورة مريم: الآيات من (41 – 45).