تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

التناسب في ترتيب المقاطع وتركيباتها الجمالية في بنية الكلمات.

ومن هذا المنطلق يضاف إلى إعجازات القرآن المتعددة؛ إعجازه وفرادته في تناسب المقاطع الصوتية التي تتألف منها كلماته بإيقاعها الزمني والصوتي، لأن حلاوة السمع فيه لا توجد إلا مع وجود التناسب في هذه المقاطع. وكأني بهذا الترتيب المتناسب للمقاطع الصوتية في الكلمات القرآنية هو الذي يسر تضمين الآيات أو أجزاء منها في الأبيات والقصائد الشعرية.

كذلك يؤدي ترتيب المقاطع وتوزيعها في بنية الكلمات القرآنية إلى استنطاق الجمالية الصوتية والنصية في هذه الكلمات بإسهامها في جعل الصورة السمعية متناسبة الأجزاء، معتدلة التركيب، بالإضافة إلى مناسبة الدلالات المرادة من وراء هذا الترتيب. ويمكننا تلمس مثل هذه الجمالية للتوزيع المقطعي لبعض آيات القرآن الكريم، وذلك للوقوف على هذا التميز التوظيفي والجمالي. فمثلاً:

نجد القرآن الكريم يوظف المقاطع المقفلة للتعبير عن معنى الجد الفاصل الذي لا مجال فيه لتهاون أو تردد. يقول تعالى: ? إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ? (). فالمقاطع في هاتين الآيتين مقاطع مقفلة حادة تناسب معنى الفصل القاطع. وقد عمد القرآن الكريم إلى توظيف مقطع مفتوح ينتهي بمدّ في وسط هذه السلسلة من المقاطع المقفلة، فوظف (ما) ليعبر بها عن النفي المؤكد الذي يعم كل هزل.

كذلك نلمس مثل هذا التوظيف للمقاطع المقفلة في سياق الوصف الدقيق للأوامر الربانية للمصطفى ? في بدء البعثة. يقول تعالى: ? يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ? (). فهذه آيات مثيرة تتضمن أوامر تكليفية للمصطفى ? بتبليغ الدعوة، وتربوية حافلة بآداب وأخلاق إنسانية، روعي في صياغتها وإيقاعها أن تكون مناسبة لجدية الأوامر الإلهية، وما يستلزمه ذلك من الحزم والصرامة والصبر من جانب المصطفى ?. وقد جاء ترتيب المقاطع الصوتية في هذا المقام مناسباً للمعنى، فمعظمها مقاطع مقفلة منتهية بالسكون. غير أنه لطف من حدة توالي المقاطع المقفلة بتوظيف بعض المقاطع المفتوحة التي جاءت متباعدة في مواقعها مثل (يا) و (لا)، لكنها اندرجت في غمرة المقاطع المقفلة فلم يلحظ تأثيرها الصوتي، استمر الإيقاع سريعاً حاداً يتناسب مع الأمر الجدي في هذا المقام.

وما نلمسه في توظيف القرآن للمقاطع المغلقة في قوله تعالى: ? وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ? ()، فنلمس البيان الجليّ المعبِّر عن التصميم القاطع للقيام بالأمر الذي تحاوله كل أمة في محاربتها الدعوة التي يقوم بها كل رسول مرسل. ونلحظ تتابع المقاطع المقفلة المنتهية بالسكون الحيّ مما يعدّ خير تعبير عن هذا المعنى الدلالي، فارتبط المقطع الصوتي بدلالته السياقية، وشارك نطق هذه المقاطع في تصوير هذا المعنى، وذلك لأن الميم المشددة التي تكررت في (همّت) و (أمّة) جعلت القارئ بلا شعور يشدّ على شفتيه بقوة متتابعة، فرسمت بذلك صورة للإنسان الحانق الذي صمم على أمر يهمه كثيراً.

وتوظيف القرآن لهذا النوع من المقاطع المنتهية بالسكون الحيّ أي: سكون التركيز الذي يضيف إلى المتحرك السابق عليه قوة، فيشاركه بتلك القوة في المجال الصوتي الضيق. ويعرف الإمام القسطلاني هذا السكون بقوله: " أما السكون فنوعان: حيّ وميّت. فالثاني الألف وأختاها، لأنهن لا حيز ولا مقطع لهن، فإذا انفتح ما قبل الواو والياء فسكونها حيّ لأخذ اللسان الياء والشفتين والواو كسائر الحروف " (). والإيقاع المتولد عن هذا السكون له دلالات متنوعة، ذلك لأن حركته الإيقاعية " تكون حادة عنيفة، بخلاف السكون الميت فهو كما يقولون: (سكون استغراق) ومعنى ذلك أنه يمتد عند النطق فيستغرق كل الوقت المخصص له، وهو سكون يتميز باللين والاسترخاء " ().

أما توظيف القرآن الكريم للمقاطع الممدود (الطويلة) فقد جاء توظيفها على نسق جمالي فريد في سياقات النص الكريم، نمثل لها بما يلي:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير