وحتى إذا ذكرت كلمة (السماء) مجموعة جيء بكلمة (الأرض) معها مفردة في كل موضع، ولما احتاج القرآن إلى توظيف الجمع لكلمة (الأرض) عدل عنها إلى تعبير يفيد الجمع لكنه ليس بجمع لها، وذلك في قوله تعالى: ? اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ? ()، فلم يقل (سبع أرضين)، واكتفي بجمع لفظ (مثلهن).
وكلمة (الأرض) لو أريد جمعها على قياس جموع التكسير لقيل (آراض) كأجمال، أو (آروض) كفلوس. إلا أن هذا الأمر مستثقل لأن جمع كلمة (الأرض) على هذا النحو " ليس فيه من الفصاحة والحسن والعذوبة ما في لفظ السماوات، وأنت تجد السمع ينبو عنه بمقدار ما يستحسن لفظ السماوات. ولفظ السماوات يلج في السمع بغير استئذان لنصاعته وعذوبته. ولفظ (الأراضي) لا يأذن له السمع إلى على كره. ولهذا نفادوا من جمعه إذا أرادوه بثلاثة ألفاظ تدل على التعدد كما قال تعالى: ? سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ?، كل هذا تفادياً من أن يقال أراض، وآرض " ().
أما كلمة السماوات فقد وردت مجموعة ومفردة في الكثير من الآيات القرآنية، وما يحدد ذلك المقصد من التنويع الصوتي في التعبير بالكلمة حسب (العدد) إنما هو السياق الذي ترد فيه. فمثلاً قوله تعالى: ? وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء ? ()، وقوله تعالى: ? عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ? (). فقد عبر بلفظ (السماء) مفرداً في سياق الآية الأولى، ومجموعة في سياق الآية الثانية، فما سر ذلك العدول العددي لتوظيف المفردة في الآيتين؟
إن السر الجمالي في هذا العدول يكمن في أن إرادة (الإطلاق) في سورة يونس هي التي سوغت إفراد الكلمة دلالة على الوصف الشامل، والفوق المطلق دون إرادة تحديد سماء بعينها مخصوصة. يقول السهيلي: " قد يرد لفظ السماء عبارة عن كل ما علا من سماوات فما فوقها إلى العرش، وغير ذلك من المعاني العلوية المختصة بالربوبية، فيكون اللفظ بصيغة الإفراد كالوصف المُعَيَّر به عن الموصوف " ().
أما آية سورة سبأ فإن التناسب بين الدلالات هو الذي اقتضى جمع كلمة (السماوات)، وذلك لأن قبلها ذكر سبحانه وتعالى سعة الملك، والمحل كله ملكه، والأرض جميعها قبضته. فلذا ناب هذا المعنى جمع كلمة (السماوات) لإرادة الشمول والإحاطة بهذا الملك، ولو أفرد لظُنَّ أن الحكم منه سبحانه وتعالى على هذه المفردة فقط -حاشاه تعالى -. فإرادة المناسبة هنا هي المسوغ الرئيس لهذا الجمع.
كما نلحظ أن القرآن الكريم كلما عبر بلفظة (السماء) مفردة فإن ذلك يكون في سياقات تتطلب هذا الإفراد، مثلما نلمسه فيما يلي:
• إرادة إثبات صفة العلو له سبحانه في قوله تعالى: ? أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ ? ().
• إرادة عموم الجنس في قوله تعالى: ? فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ? ().
• الدلالة على عموم الرزق في قوله تعالى: ? وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ? ().
• مناسبة المقام كقوله تعالى: ? اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاءُ ? ()
وما هذا كله إلا تأكيد لما نهجه القرآن الكريم من منهج دقيق في انتقاء كلماته مراعياً سياقها الجمالي، ونسقها الصوتي، وارتباط هذا النسق الصوتي بالدلالات النصية في القرآن الكريم.
* وقد يهجر القرآن الكريم التعبير بالكلمة المفردة إذ لم تكن فيه العذوبة التي تسم جمعه، وذلك مراعاة لجرس الكلمة، وخفة سريانها وجريانها على اللسان. نلمح ذلك في توظيف القرآن لكلمة (جَدَث) مجموعة دون المفرد كما في قوله تعالى: ? فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ? ()، وقوله تعالى ?: يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً ? (). ولعل سبب هذا العدول عن توظيف مفرد الكلمة ما في هذا المفرد من الثقل بسبب اجتماع حرفين متقاربين في المخرج الصوتي هما (الدال) و (الثاء)، فلما فُصِل بينهما بألف المدّ في صيغة الجمع خفّ اللفظ، وراق وعذب، ولذا تم العدول عن هذا المفرد إلى الجمع ().
الهوامش:
1. - محمد فؤاد عبد الباقي، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، 744.
2. - سورة الزمر: آية رقم (21).
3. - سورة آل عمران: آية رقم (190).
4. - سورة المائدة: آية رقم (100).
5. - سورة البقرة: آية رقم (197).
6. - الرافعي، إعجاز القرآن، 182.
7. - سورة الإنسان: آية رقم (15).
8. - د. أحمد أبو زيد، التناسب البياني، 305.
9. - سورة الحاقة: آية رقم (17).
10. - ينظر: ابن الأثير، المثل السائر، 1/ 384. – الرافعي، إعجاز القرآن، 183.
11. - محمد فؤاد عبد الباقي، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، 33 - 40.
12. - سورة الطلاق: آية رقم (12).
13. - ابن قيم الجوزية، بدائع الفوائد، 1/ 103.
14. - سورة يونس: آية رقم (61).
15. - سورة سبأ: آية رقم (3).
16. - السهيلي، نتائج الفكر، 161.
17. - سورة الملك: آية رقم (16).
18. - سورة الذاريات: آية رقم (23).
19. - سورة الذاريات: آية رقم (22).
20. - سورة الروم: آية رقم (48).
21. - سورة يس: آية رقم (51).
22. - سورة المعارج: آية رقم (43).
23. - ينظر: د. محمد الأمين الخضري، الإعجاز البياني، مطبعة الحسين، القاهرة، 1993، 97.
¥