تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وترادف المفردات في سياقاتها التوظيفية في القرآن الكريم من الملامح الأسلوبية الفريدة، غذ يناط بكل مفردة في سياقها أداء الأغراض والدلالات التي قصد ت من وراء توظيفها في هذا السياق، والتي لا تقوم بها غيرها لو وضعت موضعها. وهذا التعاور في السياق القرآني إنما هو دليل إعجاز لغوي وبلاغي لا شك في هذا، لكن لا بد من الوقوف المتأني على بعض ألوان هذا الترادف لاستكناه جمالياته الدلالية في السياق القرآني. يقول ابن الأثير عن هذا المسلك القرآني في توظيف المترادفات: " من عجيب ذلك أنك ترى لفظتين تدلان على معنى واحد، وكلاهما حسن في الاستعمال، وهما على وزن واحد، وعدة واحدة، إلا أنه لا يحسن استعمال هذه في كل موضع تستعمل فيه هذه، بل يفرق بينهما في مواضع السبك " ().

فالسبك هو الذي يحدد مناط التوظيف لكل مفردة، وهذا السبك لا يدرك إلا بالذوق السليم، والفطرة البلاغية الرائقة. ولنحاول الآن الوقوف على بعض سياقات هذا التعاور الترادفي في معانقته للنص القرآني.

* فمن ذلك قوله تعالى: ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ? ().

* قوله تعالى: ? وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ. وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ? ().

ومناط التحليل هنا هو كلمتا (هامدة) في آية سورة الحج، و (خاشعة) في آية سورة فصلت. ويتضح من المعنى تقارب الكلمتين دلالياً وترادفهما، فما سر هذا التبادل التوظيفي في الآيتين؟ ولم عبر بهذه في موضعها ولم يعبر بالأخرى في هذا الموضع أو العكس؟ يلاحظ أولاً أن (الهمود) و (الخشوع) يتحدان في المعنى العام لهما، ويستدل بهما في الآيتين على قدرة الخالق -جل وعلا- على البعث والإحياء، فما بعد هذا السكون والهمود إلا حركة وحياة دالة على طلاقة القدرة، وعظيم الصنعة. أما من الناحية التأصيلية للفظين فإننا نجد بعض الإيضاحات للفروق بين اللفظين عند الراغب إذ يقول في تفسير لفظ (الخشوع): " الخشوع: الضراعة، وأكثر ما يستعمل الخشوع فيما يوجد على الجوارح. والضراعة أكثر ما يستعمل فيما يوجد في القلب " ().

أما لفظة (هامدة) فيقول في تفسيرها: " يقال: همَدَت النار طَفَأَت، ومنه أرض هامدة: لا نبات فيها. ونبات هامد: يابس. قال تعالى: ? وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً ?. والإهماد الإقامة بالمكان كأنه صار ذا همد. وقيل الإهماد السرعة " ().

ويلاحظ أن الجو العام في سياق آية سورة الحج يدور في إطار الحديث عن البعث والإحياء والإخراج، ومما يتسق مع هذا الجو في ضوء ما قرره الراغب من معان لمادة (الهمود). وتصوير الأرض بالهامدة أي القاحلة التي لا نبات فيها، هو تصوير متسق مع سياقات البعث في الآية، لأن الأرض بإنزال المطر تربو وتهتز من بعد موات، فتعود خضراء رابية كأنما بعثت من بعد موت، وهي كذلك.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير