فإذا كان هناك مصدران أحدهما يتسم بالعمومية مثل (ضلال)، والآخر يتسم ببعض الخصوصية مثل (ضلالة)، فإن استعمال العام في حالة النفي أبلغ من استعماله في حالة الإثبات، كما أن استعمال الخاص في حالة الإثبات أبلغ من استعماله في حالة النفي، وذلك لأن ثبوت الخاص يدلّ بالتالي على ثبوت الخاص، ولا يدلّ نفي الخاص على نفي العام ().
ونلمح عند ابن النقيب (ت 698 هـ) لفتة سياقية جميلة إذ يقول: " لو قال: ليس بي ضلال، لما صحّ، لأن اسم الجنس يقال على الكثير والقليل، فيجوز أن يكون المنفي هو الكثير " (). وبالتالي فإن هذا القليل لم يشمله النفي، فيكون ذلك مستقبحاً في حق نبي من أنبياء الله الكرام.
هكذا يكون التوظيف القرآني للمصدرين من صيغة واحدة في سياق آية واحدة، مراعياً تعلقات السياق، وتفصيلات الصورة في إطارها الكامل.
* ومن ذلك أيضاً توظيف القرآن الكريم لثلاثة مصادر متنوعة من مادة (رَهَبَ) هي: (الرَّهْب، والرَّهَب، والرَّهْبَة)، وردت على التوالي في الآيات التالية:
1 - الرَّهْب: ورد في موضع وحيد في قوله تعالى: ? اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ? ().
2 - الرَّهَب، ورد في موضع وحيد في قوله تعالى: ? فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ? ().
3 - الرَّهْبَة، ورد في موضع وحيد في قوله تعالى: ? لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ ? ().
والمعنى الجامع لهذه الصيغ يجمله الراغب بقوله: " الرَّهْبَة والرَّهَب: مخافة مع تحرّز واضطراب " ().
فالمصدر الأول؛ الرَّهْب بإسكان الهاء، ورد في ساق إخبار الله تعالى عن موقف المناجاة لنبيه موسى ?، وما أعقب هذا الموقف من البشارات والمعجزات التأيدية التي منها (اضمم إليك جناحك من الرَّهْب)، أي كلما أصبت بالخوف والاضطراب اضمم يدل إلى صدرك، وضعها موضع قلبك، فسيزول عنك هذا الاضطراب، وتعود إليك السكينة ().
والمصدر الثاني؛ الرَّهَب بفتح الهاء موظف في سياق حديث المولى عز وجل عن طائفة خاصة من أهل الإيمان هم الأنبياء والصالحون الذين هم بين الرّغَب في الثواب والمغفرة من الله عز وجل، ونوال ما عنده، والرَّهَب من عقوبته وجبروته. ونلمح هنا تناسباً سياقياً وإيقاعياً متوازناً مستمداً من توافق (رَغَبَاً) و (رَهَباًَ) في الوزن والحركات. وهذا التوازن تصوير لحالة هؤلاء الصالحين إذ أنهم دوماً ما بين الخوف والرجاء، ما بين الرغب والرَّهَب. وفي سياق آية سورة الأنبياء يكون هذا الرَّغَب والرَّهَب وارداً في سياق مدح نبي الله زكريا ? وزوجه حال عبادتهم!
أما المصدر الثالث؛ الرَّهْبَة ورد في سياق وصف حال أهل النفاق في تحالفه مع اليهود ضد المسلمين، فأهل النفاق اشد خوفاً وفزعاً من المسلمين، هم يتميزون بالجبن الشديد. وهذا الذمّ الإلهي لهم لكونهم أكثر مخافة لبشر مثلهم؛ هم المسلمون دون خوفهم من الله سبحانه وتعالى. يقول الأنصاري: " إن علق قوله? مِّنَ اللَّهِ ? بأشد، لزم ثبوت الخوف لله، وهو محال. أو بالرهبة، لزم كون المؤمنين اشد خوفاً من المذكورين، وليس مراداً؟ قلت: الرهبة مصدر رُهِبَ بالبناء للمفعول هنا، فالمعنى: أشد مرهوبية، يعني أنكم في صدورهم أهيب من كون الله تعالى فيها " ().
فالرهبة مصدر موظف على إرادة البناء للمجهول، وذلك لإفادة الإمعان في الوصف، فهم أكثر رُعْباً وخوفاً ورهْبَة.
وبذلك فإن الفروق الدلالية والسياقية في التعبير بتلك المصادر تتمثل في:
1 - الرَّهْب: خوف طبيعي عرضي سريع، حالة خاصة بنبي الله موسى ? حينما حان وقت حمله للرسالة، سرعان ما زال عنه بإرشاد الله تعالى له.
2 - الرّهَب: حالة خوف دائم ممزوج بالرجاء الدائم، فهما مختلطان. وهو مصاحب لقلوب أهل الإيمان في عبادتهم لله سبحانه وتعالى، وهو خوف الممدوح.
3 - الرَّهْبَة: الخوف الممزوج بالجبن المذموم، وهي حالة دائمة لأهل النفاق واليهود.
¥