تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وقد وظف النص القرآني هذه الظاهرة أجمل توظيف في سياق الآيات، وفق كل إمكانات هذه المصادر من الناحية اللغوية والصرفية والصوتية والدلالية، وكل هذا يتم في سياق منظومة جمالية تتسم بالإعجاز في شتى مناحيه.

فالقرآن الكريم يورد في سياق آياته ثلاثة مصادر لمادة (رَشَدَ) هي: (الرُّشْد، والرَّشَد، والرَّشَاد). ومصدرين لمادة (تَوَبَ) هما: (التَّوْب، والتَّوْبَة)، ومادة (ضَلَّ) هما: (الضَّلَال، والضَّلالَة)، ومادة (أَمَنَ) هما: (الأَمْن، والأَمَنَة)، ومادة (خَلَدَ) هما: (الخُلْد، والخُلُود)، ومادة (شَكَرَ) هما: (الشُّكْر، والشُكُور)، ومادة (بَأَسَ) هما (البَأْس، والبَأْسَاء). ولنحاول أن نقف على بعض الفروق الدلالية والسياقية لتوظيف هذه المصادر في سياق الآيات القرآنية.

* فمن ذلك قوله تعالى: ? قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ? (). فقد وظف النص القرآني في هذه الآية مصدرين هما (الضلال) و (الضلالة) لفعل واحد هو (ضَلَّ) مضعف العين. فلم كان هذا التلوين في توظيف المصدر؟

والراغب يفصل القول في تبيان معاني المصدر من هذه المادة بقوله: " الضلال: العدول عن الطريق المستقيم، ويضاده الهداية. قال تعالى: ? مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ? (). ويقال الضلال لكل عدول عن المنهج، عمداً كان أو سهواً، يسيراً كان أو كثيراً " ().

وقد ورد المصدر من (ضَلَّ) بصيغة (ضلال) في القرآن الكريم في (38 ثمانية وثلاثين موضعاً)، وورد بصيغة (ضلالة) في (9 تسعة مواضع) (). فالضلال أكثر توظيفاً كمصدر صريح من الضلالة التي هي اسم مرة.

وفي آية سورة الأعراف نجد أن سياق الآية يشير إلى وصف قوم نوح ? له بأنه في ضلال مبين، ثم دفاعه ? عن نفسه بنفي هذه الضلالة. وقد كان مقتضى السياق أن يتم نفي ما وُصِفَ به وهو (الضلال)، فلم عدل عن التعبير بصيغة (الضلال) إلى توظيف اسم المرة (الضلالة)؟ يقول الزمخشري: " إن قلت لم قال ? لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ ?، ولم يقل ضلال كما قالوا. قلت: الضلالة تخص من الضلال، فكانت أبلغ في نفي الضلال عن نفسه، كأنه قال: ليس بي شيء من الضلال " ().

وهذا التوجيه يعتمد على دلالات التعبير بمصدر اسم المرة، ومن باب نفي الأقل. لكن أليس من المقبول عقلاً أن يكون هذا النفي غير عام، أو غير محيط، فاحتمل الأمر أن يتسرب إلى النفس بعض الشك في أنه لو عبّر بنفي المصدر لكان ذلك أتم وأشمل، وذلك لأن قولك: (هذا ليس بإنسان) لم يستلزم ذلك أن لا يكون حيواناً. لكننا لو قلنا: (هذا ليس بحيوان) لاستلزم ذلك أن يكون إنساناً، فنفي الأعم أبلغ هنا من نفي الأخصّ. ولذا فإن (الضلالة) أدنى من (الضلال) وأقلّ، لكونها لا تطلق إلا على الفعلة الواحدة من (الضلالة) فهي اسم مرة. أما (الضلال) فكما أشار الراغب (يطلق على القليل والكثير) ().

وهذا الالتفات عن صيغة المصدر إلى اسم المرة، وإيقاع هذه الصيغة في هيئة النكرة مع توظيف حرف الجر الملاصق وهو (الباء)، كل ذلك يتعاضد معاً لإفادة معنى النفي القاطع في أن يكون قد علق بنوح ? أدنى قدر من هذه الضلالة ().

وهذا أيضاً يحتاج إلى شيء من التدقيق في توجيه الدلالة بالاستفادة من النفي الموظف في الآية يفصله ابن الأثير بقوله: " إن قيل لا فرق بين الضلالة والضلال، وكلاهما مصدر قولنا: ضَلَّ يَضِلّ ضَلالا، وضَلَّ يَضِلَ ضَلاَلَة. كما يقال: لذَّ يَلِذّ (لَذَاذاً) و (لَذَاذَة). فالجواب عن ذلك أن الضلالة تكون مصدراً كما قلت، وتكون عبارة عن المرة الواحدة. تقول: ضَلّ يَضِلّ ضَلالَة: أي مرة واحدة، كما تقول: ضَرَبَ يَضْرِب ضَرْبَة، وقَامَ يَقُوم قَوْمَة، وأَكَلَ يَأْكُل أَكْلَة. والمراد بالضلالة في هذه الآية هو عبارة عن المرة الواحدة من الضلال الخاص، ولا يدلّ نفي الخاص على نفي العام " ().

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير