عرض سيبويه لقضية الحذف في باب ما يحذف من أواخر الأسماء في الوقف إذ يقول: " أما الأفعال فلا يُحذَف منها شيء لأنها لا تذهب في الوصل في حال، وذلك: لا أقضي، وهو يقضي ويغزو ويرمي. إلا أنهم قالوا: (لا أدرِ) في الوقف، لأنه كثر في كلامهم " ().
ويرى أبو عبيدة في الحذف للوقف أنه من مناهج العرب في تعاملهم مع الكلمة حين يراد الوقف على آخرها فيحذفون وقفاً. يقول في تعيليه لحذف حرف الياء من كلمة (يسرِ) في قوله تعالى: ? وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ? (): " العرب تحذف هذه الياء في موضع الرفع، ومثل ذلك (لا أدرِ) " ().
ويناقش الأخفش هذه المسألة في تحليله الدقيق لحذف ياء الإضافة بقوله: " فإذا كان شيء من هذا الدعاء حذفت منه الياء نحو: ? يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ? (). ومن العرب من يحذف هذه الياءات في الدعاء وغيره من كل شيء، وذلك قبيح في رؤوس الآي، فإنه يحذف في الوقف. كما تحذف العرب في أشعارها من القوافي " ().
4 - الحذف كراهة توالي الأمثال:
فمن ذلك ما عرضه أبو عبيدة من تحليل دقيق لتوالي حرف (النون) في كلمة (تبَشِّرونِ) في قوله تعالى: ? فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ? () بكسر نون الفعل، وهي قراءة ابن كثير ونافع، وبفتحها على قراءة أبي عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي (). يقول أبو عبيدة: " قوم يكسرون النون، وكان أبو عمرو يفتحها ويقول: إنها إن أضيفت لم تكن إلا بنونين لأنها في موضع رفع، فاحتج مَنْ أضافها بغير أن يُلحِق فيها نوناً أخرى بالحذف؛ حذف أحد الحرفين إذا كانا من لفظ واحد " (). وهذا الحذف الذي تم هنا إنما هو في سياق الحذف لتوالي الأمثال.
وهذا أيضاً ما ذهب إليه الأخفش في تناوله للآية السابقة بقوله: " فأذهب إحدى النونين استثقالاً لاجتماعهما " ().
5 - حذف الياء والواو والاجتزاء عنهما بالحركة المجانسة:
وهذا من عادات العرب في كلامها. و الفراء في تعليقه على قوله تعالى: ? فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي ? ()، وتعليله سبب إثبات الياء في كلمة (اخشوني) في الآية، وعدم إثباتها في مواضع أخرى من القرآن الكريم، يقول: " أثبتت فيها الياء ولم تثبت في غيرها، وكل ذلك صواب. وإنما استجازوا حذف الياء لأن كسرة النون تدلّ عليها، وليست تهيب العرب حذف الياء من آخر الكلام إذا كان ما قبلها مكسوراً. من ذلك ? رَبِّي أَكْرَمَنِ ? ()، و ? أَهَانَنِ ? () في سورة الفجر، و قوله ? أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ ? (). ومن غير النون ? الْمُنَادِ ? ()، و ? الدَّاعِ ? ()، وهو كثير يُكتفى من الياء بكسرة ما قبلها، ومن الواو بضمة ما قبلها " ().
ويرى بعض الباحثين أن هذه الحروف المحذوفة في مثل قوله تعالى: ? وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ ? ()، حيث حُذِفَت الواو من الفعل (يدع)، إنما تم الحذف فيها لدلالات سياقية مثل الدلالة على سرعة حدوث الفعل، أو سهولته على فاعله، أو شدة قبول المنفعل به في الوجود ().
تلك هي أهم أسباب حدوث الحذف في سياق الكلمة العربية. وعلى هذا التأسيس يمكننا تلمس بعض نماذج الحذف الحرفي في الكلمة القرآنية، ومحاولة تبيان الناتج الدلالي للتلوين الصوتي بالحذف في هذه السياقات القرآنية.
ا – حذف التاء في أول الفعل المضارع:
ويتم ذلك إذا التقت التاء الأولى بتاء أخرى في أوله. وهذا يوجد في ثلاث صيغ هي: (تَفَعَّلَ، و تَفَاعَلَ، و تَفَعْلَلَ). ويعلل الحذف هنا بأنه لتوالي الأمثال (). وفي القرآن الكريم أمثلة كثيرة تدلل على الحذف في هذه الصيغ كما في:
• قوله تعالى: ? فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى ? ().
• قوله تعالى: ? فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى ? ().
• قوله تعالى: ? تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ? ().
• قوله تعالى: ? وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ? ().
¥