وعلى هذه الآية قوله تعالى: ? وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ? ()، وقوله تعالى: ? إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ? (). يقول ابن جني: " كُتِبَت كذلك بغير واو دليلاً في الخط على الوقوف عليه بغير واو في اللفظ " ().
* ومن ذلك قوله تعالى: ? إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ? (). فقد قرأ القراء ما عدا يعقوب الحضرمي بحذف الياء من كلمة (آت) في الوقف والوصل، وأثبتها يعقوب في الوقف (). يقول الداني: " كل اسم مخفوض أو مرفوع لحقه التنوين فإن المصاحف اتفقت على حذف الياء من آخرها رسماً " ().
ويرى ابن الأنباري أن الحذف في كلمة (لآتٍ) قد تم في إطار التخلص من التقاء الساكنين خاصة الضمة على ياء الاسم المنقوص. يقول: " استثقلوا الضمة في الياء فحذفوها، فسكنت الياء فسقطت لسكونها وسكون التنوين " ().
فالحذف الذي تم هنا في كلمة (لآت) تم على مرحلتين هما:
- الأولى: حذف الضمة (العلامة الإعرابية) على كلمة (آت) خبر إنّ، فحذفت للثقل المتولد عنها على الياء.
- والثانية: حذف الياء بعد سقوط الضمة، لأنها سكنت بعد حذف الحركة، فالتقى ساكنان؛ (سكون الياء، وسكون التنوين)، ولزم التخلص من أحدهما، فحذفت الياء لأنها أسهل في الحذف. ولذا فإن ما تم هنا هو حذف أدَّى إلى حذف آخر، فكان الحذف الأول سبباً في الحذف الثاني.
* ومن ذلك أيضاً ما نلمسه في قوله تعالى: قوله تعالى: ? لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ? (). فقد تم حذف الياء من كلمة (غواشٍ). يقول مكي بن أبي طالب: " غواش: مبتدأ والمجرور خبرها، وأصلها إلا تنصرف، لأنها على فواعل مثل (سلاسِل) في ترك الصرف ... إلا أن التنوين دخلها عوض من ذهاب حركة الياء المحذوفة. فلمّا التقى ساكنان؛ سكون الياء لثقل الضمة عليها، التنوين، حذفت الياء لالتقاء الساكنين، فصار التنوين تابعاً للكسرة التي كانت قبل الياء المحذوفة " ().
وهذه النماذج من التلوين الصوتي بحذف الحرف تخلصاً من التقاء الساكنين إنما مقصدها التخفيف، وطلب السلاسة اللفظية على أداء اللسان، إذ أن هذا التخلص هو إحدى وسائل العربية لنفي الثقل النطقي في أبنيتها، والحفاظ على جمالية أصواتها في التآليف المختلفة.
ونخلص مما سبق:
أن فنية الحذف في السياق اللفظي المفرد تتسق في كل تعانقاتها النصية في القرآن الكريم مع الدلالة، إذ يُناط بهذا الحذف في الكلمة المفردة أداء مقاصد ودلالات مالية تتعاضد في مجملها العام مع ألوان السياقات داخل النص القرآني، فضلاً عن فرادة مثل هذا التوظيف للسياق الحذفي في الآيات القرآنية.
الهوامش:
1. - ينظر: سيبويه، الكتاب، 1/ 320.– المبرد، المقتضب، 3/ 225.– ابن جني، الخصائص، 2/ 260.– ابن يعيش، شرح المفصل، 1/ 90 – 105. – الرضي، شرح الكافية، 1/ 275 – 284.
2. - ابن جني، الخصائص، 3/ 112.
3. - ينظر: د. طاهر حمودة، ظاهرة الحذف في الدرس اللغوي، الدار المصرية للنشر، الإسكندرية، 1997، 111 - 128.
4. - د. محمد أبو موسى، خصائص التراكيب، 114.
5. - ينظر: د. رمضان عبد التواب، التطور اللغوي، 95.
6. - ينظر: الأخفش، معاني القرآن، 1/ 147 – 155.
7. - ينظر: الفراء، معاني القرآن، 1/ 28.
8. - سورة الأعراف: آية رقم (150).
9. - الفراء، معاني القرآن، 1/ 394. – و ينظر: أبو عبيدة، مجاز القرآن، 2/ 25.
10. - ينظر: د. إبراهيم السامرائي، التطور اللغوي والتاريخي للغة العربية، دار المعرفة، بيروت، ط3، 1987، 73.
11. - ينظر: د. طاهر حمودة، ظاهرة الحذف، 73.
12. - سورة النمل: آية رقم (25).
13. - أبو عبيدة، مجاز القرآن، 2/ 93.
14. - ينظر: الفراء، معاني القرآن، 1/ 431. – الأخفش، معاني القرآن، 2/ 649.
15. - سيبويه، الكتاب، 4/ 184.
16. - سورة الفجر: آية رقم (4).
17. - أبو عبيدة، مجاز القرآن، 2/ 297.
18. - سورة الزمر: آية رقم (16).
19. - الأخفش، معاني القرآن، 1/ 239.
20. - سورة الحجر: آية رقم (54).
21. - ينظر: ابن مجاهد، السبعة في القراءات، 367.
¥