إن الإمام هنا لما تحدث عن تقديم الاسم المخصص بالذكر كان يتحدث عن تقديم رتبي، بمعنى أن هذا الاسم المقدم سيصير (مبتدأ به)، والفعل المثبت له بعده هو الخبر الرتبي (خبر جملة فعلية). كذلك كان هذا التقديم أيضاً (معنوياً) بمعنى الإقرار بهذا الفعل لهذا الفاعل، وتخصيصه بالفعل، أو عدم تخصيصه وتعيينه بهذا الفعل.
وعبد القاهر في القسم الأول قصر الفاعلية على الذات المفردة دون غيرها، وذلك باتخاذ ضميري المتكلم والمخاطب وسيلة لذلك، وجعلهما مسندا إليهما أي (مبتدأ). في حين أنه في القسم الثاني أثبت الفعل لفاعل ما، مع التركيز على إثبات هذا الفعل والتنبيه على ذلك دون التعريض بغير الفاعل، أو الحط من شأنه، وقد تحقق له ذلك باستخدام (ضمير المخاطب) مصدرًا به الكلام مسنداً إليه (مبتدأ به).
وهذا الذي ذهب إليه عبد القاهر من استخدام الضمائر في تأدية هذا المعنى، ليس معناه قصر هذا الأداء على هذه الضمائر، بل إنه عمم ذلك لما أشار إلى تقديم الاسم المراد تقديمه وبناء الفعل عليه. وعلى هذا فإن كل اسم ابتدئ به في صدارة الكلام يستلزم من الفعل المبني عليه بعده ضميراً يعود على المبتدأ؛ هذا الضمير هو ما يحدد خط سير الاسم من حيث كونه متكلماً أو مخاطباً أو غائباً، وبالتالي يتحدد مسار المعنى المستفاد من وراء هذا الأسلوب.
ويشير عبد القاهر إلى أنه لم يتفرد بذكر هذا الأسلوب بل سبقه إليه إمام النحويين سيبويه في (الكتاب)، يقول عبد القاهر: " هذا الذي ذكرت لك من أن تقديم المحدث عنه يفيد التنبيه له، قد ذكره صاحب الكتاب في المفعول الذي قدم فرفع بالابتداء، وبني الفعل الناصب كان له عليه، وعدي إلى ضميره فشغل به. كقولنا في (ضربتُ عبدَ الله) و (عبدُ الله ضربتُه) فقال: وإنما قلت: عبدُ الله فنبهته له، ثم بنيت عليه الفعل، ورفعته بالابتداء " ().
وإشارة عبد القاهر هنا إنما ساقها ليدلل على رأيه بأن تقديم الاسم وبناء الفعل عليه قد يخرج عن غرض القصر إلى غرض التنبيه، وهذا ما أشار إليه سيبويه (). كذلك أشار إلى خروج هذا الأسلوب إلى غرض التأكيد.
وعبد القاهر يجعل من تقديم الاسم (المسند إليه) وبناء الفعل عليه، مع وجود ضمير عائد على المتقدم أبلغ من سياقه مجرداً من التقديم. يقول: " ليس إعلامك الشيء بغتة غفلاً، مثل إعلامك له بعد التنبيه عليه، والتقدمة له، لأن ذلك يجري مجرى تكرير الإعلام في التأكيد والأحكام، ومن هنا قالوا: إن الشيء إذا أضمر ثم فسر كان ذلك أفخم له من أن يذكر من غير تقدمة إضمار " (). واستشهد عبد القاهر بالكثير من الآيات القرآنية للتدليل على رأيه الذي ساقه في هذه الجزئية. وقد عدد عبد القاهر مواطناً يكثر فيها تقديم المحدث عنه (المسند إليه) والغرض منه تأكيد الخبر وتحققه هي ():
1 - عند إنكار منكر، نحو قوله تعالى:] وَيَقُولُونَ عَلَى الْلَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [()، فقد وردت هذه الآية في الرد على إنكار المنكرين لهذا الدين، فجاء تقديم المحدث عنه تأكيداً لهذا الفعل.
2 - فيما اعترض فيه شك، وهو سوق الخبر على وجه الشك أو التردد في أمر ما.
3 - في تكذيب من ادعى أمراً ما، نحو قوله تعالى:] وَإِذَا جَاؤُكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ [(). فقولهم: (آمنا) دعوى لنفي صفة الكفر عن أنفسهم وهذا كذب.
4 - في استحالة القياس على مماثل، مثلما قاس الكفار على صفة الخلق للخالق، فوصفوا آلهتهم بالخلق افتراء، وهذا قياس فاسد، لأنهم يعبدون ما خلق بأيديهم، فكيف يكون المخلوق خالقاً؟! وعليه قوله تعالى:] وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ [().
5 - ما جاء على خلاف المعتاد، وذلك ممن علم حاله، وثباته على صفة ما أو على فعل ما، ثم أخبر عنه بما يناقض ذلك، فلا يصدق. كالإخبار عن جبان رعديد بأنه قاتل العدو في خطوط المواجهة.
6 - في الوعد والضمان كقولك: (أنا أقوم بهذا الأمر عنه).
7 - في المدح، فالمدح يمنع السامع من الشك في الممدوح، ويبعده عن الشبهة.
¥