وعدا هذه المواطن يؤتى بالفعل ثم يبنى عليه الاسم، وذلك إذا كان الفعل مما لا يشك فيه ولا ينكر. يقول عبد القاهر: " إذا كان الفعل مما لا يشك فيه ولا ينكر بحال لم يكد يجئ على هذا الوجه، ولكن يؤتى به غير مبني على اسم، فإذا أخبرت بالخروج عن رجل من عادته أن يخرج في الغداة قلت: (قد خرج) ولم تحتج إلى أن تقول: (هو قد خرج)، ذاك لأنه ليس بشيء يشك فيه السامع فتحتاج أن تحققه، وإلى أن تقدم فيه ذكر المحدث عنه " ().
ويحسن بناء الفعل على اسم في حالة عدم الشك في الفعل أو إنكاره، إذا كان الكلام في جملة حال مثل: (جئته وقد ركب)، وذلك لأن حكم المعنى يتغير في هذا الموضع، ويصير إلى الشك ولو بقدر بسيط. ويصف عبد القاهر هذا الأسلوب بقوله: " هذا وهو كلام لا يكاد يجيء إلا نابياً، وإنما الكلام البليغ هو أن تبدأ بالاسم وتبني الفعل عليه كقوله: قَدْ اغْتَدِي وَالطَّيْرُ لَمْ تُكَلَّمِ
فإذا كان الفعل فيما بعد هذه الواو التي يراد بها الحال مضارعاً لم يصح إلا مبنياً على اسم كقولك: (رأيته وهو يكتب) " (). والمعنى لا يستقيم إلا على هذا المنوال، وهو ما استخدمه النص القرآني في آيات كثيرة وهو أبلغ. أما في الخبر المنفي، فالأمر يقتضي الصنيع نفسه، كقوله تعالى:] وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ [()، وقوله تعالى:] لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ [().
فهذه المعاني تعاورها أهل البلاغة من بعد عبد القاهر بلا زيادة، وأوردوا شواهده مضافاً إليها بعض الشاهد الأخرى على تفصيله وتحليله.
ومن جميل التوظيف القرآني لسياقات التركيب الاسمي والفعلي أنه يستعملهما استعمالاً متناسباً مع وقع الحدث في الحياة، فإذا كان الحدث مما يتكرر حدوثه ويتجدد استعماله، استعمله القرآن الكريم بالصورة الفعلية، وإن لم يكن كذلك وظّفَ الجملة الاسمية.
* فمن ذلك مثلاً توظيف القرآن الكريم للفعل (يُنْفِق)، إذ وظفه في سياق تجددي مستمر قائم على التناغم مع لغة الحياة المقتضية لهذا الفعل، ولذا وظفه القرآن في صورته الفعلية في:
- قوله تعالى: ? الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً ? ().
- قوله تعالى: ? بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ? ().
- قوله تعالى: ? قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً? ().
- قوله تعالى: ? وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ? ().
- قوله تعالى: ? يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ? ().
فقد وظف في هذه الآيات سياقات الفعل المضارع الدال على التجدد في حدوث الفعل، ذلك لأن الإنفاق أمر يتجدد. ولم يرد هذا الفعل بالصورة الاسمية إلا في قوله تعالى: ? الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ? ()، ذلك لأنه وارد في سياق تعداد أوصاف المؤمنين الدالة على الثبات والاستقرار لهذه الصفات في نفوس هذه الفئة. يقول ابن عاشور في تفسير فنية الجمع بين هذه الصفات بالواو العاطفة: " إذا عطفت فقد نزلت كل صفة منزلة ذات مستقلة، وما ذلك إلاّ لقوة الموصوف في تلك الصفة، حتى كأنّ الواحد صار عدداً " ().
فهذه الصفات جزء أصيل منهم، لا يتغير بتغير الحوادث، بل هو ثابت مستقر فيهم، وهذا مستفاد بالطبع من سياق التعبير بالصيغة الاسمية دون الفعلية في هذه الصفات.
* ومن ذلك السياق التعبيري في سورة الكافرون، يقول تعالى: ? قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ {1} لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ {2} وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ {3} وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ {4} وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ {5} لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ {6} ?. إذ تنوع السياق في السورة الكريمة بين الجمل الاسمية والفعلية على النحو التالي:
1 - لا أعبد ـــــــــــــــــــــــــ جملة فعلية (فعل مضارع + فاعل مستتر وجوباً؛ ضمير متكلم).
¥