تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

* (زيداً ضربتُ)، و (ضربتُ زيداً): عبارتان ليستا بمعنى واحد " فإن في قولك: (زيداً ضربتُ) تخصيصاً له بالضرب دون غيره، بخلاف قولك: (ضربتُ زيداً)، وبيانه هو أنك إذا قدمت الفعل فإنك تكون بالخيار في إيقاعه على أي مفعول أردت بأن تقول: ضربتُ زيداً أو عمراً أو بكراً أو خالداً، وإذا أخرت الفعل وقدمت مفعوله فإنه يلزم الاختصاص للمفعول على أنك لم تضرب أحدا سواه " ().

* (زيدٌ المنطلقُ)، و (المنطلقُ زيدٌ): وأما قولك (المنطلقُ زيدٌ) والفرق بينه وبين أن تقول (زيدٌ المنطلقُ)، فالقول في ذلك أنك وإن كنت ترى في الظاهر أنهما سواء من حيث كان الغرض في الحالين إثبات انطلاق قد سبق العلم به لزيد، فليس الأمر كذلك. بل بين الكلامين فصل ظاهر وبيانه: أنك إذا قلت: (زيدٌ المنطلقُ) فأنت في حديث انطلاق قد كان وعرف السامع كونه، إلا أنه لم يعلم أمن زيد كان أم من عمرو، فإذا قلت: (زيدٌ المنطلقُ) أزلت عنه الشك وجعلته يقطع بأنه كان من زيد بعد أن كان يرى ذلك على سبيل الجواز، وليس كذلك إذا قدمت (المنطلق)، فقلت: (المنطلقُ زيدٌ)، بل يكون المعنى حينئذ على انك رأيت إنساناً ينطلق بالبعد عنك، فلم تثبته ولم تعلم أنه أزيد هو أم عمرو، فقال لك صاحبك: (المنطلقُ زيدٌ)، أي هذا الشخص الذي تراه من بُعد هو زيد ().

وقد أثارت محاولات البلاغيين التمييز بين هذه العبارات د. إبراهيم أنيس فقال عن الجرجاني: " وقد حاول عبد القاهر الجرجاني أن يفرق بين مثلين من صنعه هما: (زيدٌ المنطلقُ)، و (المنطلقُ زيدٌ) فلقي من العنت والمشقة ما أجهده وأجهدنا معه، ويظهر أن صعوبة تمييز المسند من المسند إليه في مثل هذه الجمل هو الذي ألجأ عبد القاهر وغيره إلى تكلف الشطط في علاجها. وهذه المزاوجات لا تعدو أن تكون أمر أسلوب إذ لا يكاد المعنى يختلف بتأخير أحدهما أو تقديمه " ().

ولعل د. إبراهيم أنيس حين أصدر حكمه هذا كان واقعاً تحت تأثير التصور النحوي الذي لا شأن له بالدلالات الجزئية، فالمعنى لا يختلف سواء قدّمنا أو أخّرنا، بينما يحدث التغيير في الدلالة ذاتها ففي قوله تعالى: ? وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ ? () وجدنا المعنى العام أنهم جعلوا الجن شركاءَ وعبدوهم مع الله، أما الدلالة فتأتي من وراء الصياغة الإبداعية في التقديم والتأخير ().

ولهذا لم يستطع برجشتراسر أن يقف عند حدود فارقة بين التعبير بالتركيب الفعلي (جاءَ زيدٌ)، و التركيب الاسمي (زيدٌ جاءَ). يقول: " والأقرب إلى الاحتمال هو أن يكون معنى (زيد جاء) عين معنى (جاء زيد)، وإنما الفرق بينهما أنه إذا قلت: (جاء زيد) أخبرت عن مجيئه إخباراً محضاً ولا يخالطه شيء غيره، فتقديم الفعل هو العبارة المألوفة، وإذا قلت: (زيد جاء) كان مرادي أن أنبه به السامع إلى أن الذي جاء هو زيد، كأني قلت: زيد جاء لا غيره. فتقديم الفاعل عبارة عن أن الأهم كون زيد هو الفاعل لا كونه فَعَلَ الفعل، وما ينبه به السامع على هذا المعنى شيئان:

الأول: تغيير الترتيب العادي، فكل شيء يخالف العادة هو أكثر تأثيراً في الفهم من المألوف.

والثاني: أن أول كلمة في الجملة هي على العموم المضغوطة في اللغة العربية إذا صرفنا نظرنا عما تبتدئ به الجملة من الأدوات كإن وأخواتها إلى غير ذلك " ().

فبرجشتراسر لم يجد بداً من الاعتراف بهذه الفروق الدلالية الدقيقة وإرجاعها إلى تغيير الترتيب الذي يجعل بداية الجملة مضغوطة معتنى بشأنها، وهذا الضغط هو ما سماه تمام حسان (المعنى الشأني) أو (البؤري) ()، وهو ما يفهم من تحديد بؤرة الاهتمام بمضمون اللفظ بواسطة التقديم والتأخير.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير