تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

يمكن أن نستخلص مما سبق أن أي تغيير في النظام التركيبي للجملة يترتب عليه بالضرورة تغير الدلالة وانتقالها من مستوى إلى مستوى آخر، ومِلاك ذلك كله وتمامه الجامع له – كما ينص عليه البلاغيون ويلخصه القاضي الجرجاني- صحة الطبع وإدمان الرياضة فإنهما أمران ما اجتمعا في شخص فقصرا في إيصال صاحبهما عن غايته ورضيا له بدون نهايته – وأقل الناس حظاً في هذه الصناعة لا يعبأ باختلاف الترتيب واضطراب النظم وسوء التأليف، ولا يقابل بين الألفاظ ومعانيها ولا يسبر ما بينهما من نسب ولا يمتحن ما يجتمعان فيه من سبب ().

إن اختيار المتكلم لترتيب دون ترتيب باعتبار الظروف والمقاصد التي يريدها، أي باعتبار نظام القيم، ينتج عنه كون التقديم أو التأخير من نتائج الاختيار النحوي، إذ يعود عدد الاختيارات الممكنة إلى بنية اللغة بالذات، ففي بعض الأحوال لا يكون هناك سوى بديل واحد كتقديم الفاعل أو تأخيره، فالمتحدث يختار أبنية لغوية تخضع لقواعد نحوية إجبارية في صياغتها لا مفر من اتباعها. وتظل هناك بعد ذلك مجموعة إمكانيات التعبير الاختيارية المتعادلة دلالياً بشكل أو بآخر يستطيع المتحدث أن يمارس فيها اختياراته الأسلوبية ().

وبهذا يكون التقديم والتأخير نمطاً من الأنماط الدالة، وهو وجه من أوجه الاختيار التي تُؤَدَّى بها المعاني، وانتقاء بديل من البدائل الأسلوبية المتاحة تمثل مجالاً لتباري المبدعين باعتبار أن هناك ممكنات يختص قوم دون قوم بإدراكها واكتشافها، فتكون التراتيب اللغوية المناسبة لها ملكاً لأولئك الذين يدركون كيفية استعمالها. وقد رأينا استحسان الجرجاني للتراكيب والتراتيب المنتقاة والتي عمها الحسن من جهة أن قدّمت فيها كلمة وأخّرت أخرى.

العدول في الأسلوب:

لكل أسلوب بياني دوافعه وأهدافه، ولكل مبدع أسلوبه وطريقته في التعبير، وإذا كانت بعض المدارس تجعل الأسلوب انتقاءً واختياراً، وتلزمنا بمعرفة البدائل المتاحة، تلك التي يعمل المنشئ فيها فكره بالاختيار والاستبعاد. فإن بعض الاتجاهات تحدد الأسلوب بأنه مفارقة أو انحراف أو عدول عن أنموذج آخر من القول ينظر إليه على أنه معيار (). إن مدرسة الأسلوب باعتباره انحرافاً عن النمط تحاول أن تعزف على وتر المفارقة بين البنية السطحية والبنية العميقة خاصة في الحالات التي توصف فيها البنية السطحية بأنها غير نحوية، إذ يلاحظ أصحاب هذه المدرسة كثرة ورود الجمل غير النحوية في لغة الشعر تلك الجمل التي لا يعود انعدام النحوية فيها أو انحرافها إلى جانب التركيب فحسب، وإنما قد يكون له جانبه الدلالي أيضاً ().

ولهذا كان بيروسلي يرى " أن الأسلوب هو التفصيل الدلالي، أو هو الدلالة على نطاق مصغر. أما كيفية التعرف على التفصيل الدلالي من غيره فيحددها بأنها هي التي تعتمد على معيار الانحراف في اللفظ عن القاعدة العامة لتكوينه ونظمه، فأي اختلاف في النظم يؤدي إلى اختلاف في الأسلوب " ().

إن هذه العوارض والاختلافات التي تقع في بناء الجملة لا تتم بالنظر إلى البنية الأساسية أو الأصل أو القاعدة، فلولا اعتبار هذه الأمور بالنسبة للتركيب في التحليل النحوي لما وجدنا ما يسمى بالتقديم أو التأخير أو الحذف. وهذان العارضان من أدل الدلائل على أن النحو العربي في تحليله لبناء الجملة كان يراعي الأصل والبنية الأساسية ().

والبنية الأساسية تمثل النسق المحايد الذي يراد به مجرد الإخبار، وحينما يريد المتكلم أن يجذب انتباه السامع إلى عنصر معين في الجملة، أو يريد التركيز على عنصر معين لأنه يمثل في نظره زبدة البحث اللغوي، فإنه يلجأ حينئذ إلى خرق هذا النسق بالانحراف عنه، لأن لغة الفن لها بديل سابق عليها، والمستوى الفني لا يقف عند هذا البديل، بل ربما يدفعه الموقف المعين إلى أن يعدل عن ذلك الأصل بتغيير مواقع الكلم فيه أو بالزيادة أو الحذف. وهو لا يفعل ذلك عبثاً وإنما لينقل إلى السامع دلالة يرى أن أصل الوضع قد لا يفي بأدائها. إن العدول عن الأصل يمثل نوعاً من الخروج عن اللغة النفعية إلى اللغة الإبداعية ().

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير