زحزحت (زيد) ورميت به قريباً من الصدر صار قريباً من رأس الفكرة وبؤرة الاهتمام ().
وكذلك الألفاظ التي تأتي حكماً في صدر الكلام وفي مطلع الجمل فإنها تحمل شحنات أسلوبية معينة، فهي تشبه المفاتيح الموسيقية التي تكون فاتحة القطعة الموسيقية التي تحدد تنغيمها (). كما إن الترتيبات المختلفة تصنف باعتبار درجتها البلاغية، وكثيراً ما نقرأ في كتب المتقدمين أن هذا أبلغ من هذا، وأن هذا القول أبلغ من ذاك، ونعثر على مثل هذا في كتابات الجرجاني. وغاية الأمر فيه أن هذا الرجل يبين بالاعتماد على النظرية النحوية نجاح اختيار المتكلمين لترتيباتهم وما تبعها من مجازات. يقول الجرجاني متحدثاً عن أبيات البحتري التي يقول فيها:
بَلَوْنَا ضَرَائِبَ مَنْ قَدْْ نَرَى فَمَا إِنْ رَأَيْنا لِفَتْحٍ ضَرِيباً
هُوَ المَرْءُ أبْدَتْ لَهُ الحادِثَا تُ عَزْماً وَشِيكاً وَرَأْياً صَلِيباً
تَنَقَّلَ في خُلُقَيْ سُؤْدَدٍ سَماحاً مُرَجَّى وَبَأساً مهيباً
فكَالسّيْفِ إنْ جِئْتَهُ صَارِخاً وكالبَحْرِ إنْ جِئْتَهُ مُسْتَثِيباً
(الضرائب: الطبيعة والخُلُق. الضريب: النظير والشبيه. مستثيبا: يطلب الثواب).
: " فإذا أنت رأيتها قد راقتك وكثرت عندك ووجدت لها اهتزازات في نفسك، فعد فانظر في السبب، واستقص في النظر، فإنك تعلم ضرورة أن ليس إلا أنه قَدَّمَ وأخَّرَ وعَرَّفَ ونَكَّرَ وحَذَفَ وأَضْمَرَ، وتوخَّى على الجملة وجهاً من الوجوه التي يقتضيها علم النحو فأصاب في ذلك كله، ثم لطف موضع صوابه، وأتى مأتى يوجب الفضيلة " ().
إذن فأسلوبية التقديم أكيدة في العبارة العربية حاضرة في الذوق الأدبي، تهب الجمال وتنزعه، وتقوي الحكم وترفعه أو تضعه. يقول الرازي معلقاً على قول إبراهيم بن العباس:
فلو إذْ نَبَا دهرٌ وَأُنْكِرَ صَاحِبٌ وسَُلَِطَ أعْدَاءٌ وغَابَ نَصِيرُ
تكُونُ عَنِ الأهْوَازِ دَاري بنَجْوَةٍ ولكن مَقَاديرُ جَرَتْ وأُمُورُ
: " لم تجد لما فيه من الرونق والطلاوة والحسن والحلاوة شيئاً إلا من أجل تقديم الظرف الذي هو (إذ نبا) على عامله الذي هو (تكون) وإن لم يقل: فلو تكون عن الأهواز داري بنجوة إذ نبا دهر … وكل ذلك من معاني النحو كما ترى " (). فاختيار تقديم الظرف – من جملة البدائل الأسلوبية المتاحة - هو الذي حقق للشاعر هذا المسلك البديع الذي اكسب عبارته وقعاً وجمالاً.
ومما لا شك فيه أن اختلاف العبارتين يترتب عليه اختلاف في المعنى وفي الحسن. يقول د. تمام حسان: " إذا اختلفت عبارتان وقد أفهمتا معنى واحداً، فالفرق بينهما منوط بالأسلوب لا محالة، وأول ما يميز أسلوباً عن أسلوب هو تفضيل طريقة تركيبية على طريقة تركيبية أخرى، أضف إلى ذلك أن الطرق الأسلوبية تكشف عن الكثير من المميزات المزاجية لأصحابها حتى يمكن من خلال الأسلوب أن نحدد الشخصية " (). ولذلك كان القدماء يوصون المتكلم بأن يجتهد في ترتيب ألفاظه وتهذيبها وصيانتها من كل ما يخل بالدلالة، ويعوق دون الإبانة، ولم يريدوا أن خير الكلام ما كان (غفلاً عرياناً)، مثلما يتراجعه الصبيان ويتكلم به العامة في السوق ().
علل التقديم وإفادته:
كان الدارسون قبل عبد القاهر يكتفي أكثرهم ببيان أصل العبارة في دراسة التقديم دون أن يحاولوا الكشف عن المعاني الإضافية للنصوص المختلفة بإدراك جانب من العلاقات الداخلية، فالفراء لا يتجاوز تلك النظرة المحدودة التي تحصر التقديم والتأخير في وضع كلمة موضع الأخرى، وتبادل مكان الكلمتين فتفسح إحداهما مكانها للأخرى كما يقول في قوله تعالى: ?وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى? (): " يريد: ولولا كلمة وأجل مسمى لكان لزاماً، مُقَدَّم ومُؤَخَّر " ().
وقد سار على هذا النهج كل من أبي عبيدة في مجاز القرآن، وابن فارس، والثعالبي، دون أن يقفوا على الأسرار البلاغية والدلالية لأسلوب التقديم والتأخير ().
¥