وتناوله ابن قتيبة بقوله: " ومن المقدم والمؤخر قوله تعالى: ?الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً? () أراد: أنزل الكتاب قيماً، ولم يجعل له عوجاً. ومنه: ? فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ? ()، أي بشرناها فضحكت. وقوله: ? فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا? ()، أي فعقروها فكذبوه بالعقر " ().
إلا أن الكتابات البلاغية تجاوزت بيان أصل العبارة بالنظر في أسباب التقديم ودلالاته، وتوصل أصحابها إلى أن ما قدّم أو أخّر لا يكون إلا لعلة بلاغية، وجعلوا علم المعاني مجال درسه وخاصة منه ما يتعلق بتقديم المسند والمسند إليه ومتعلقات الفعل، وجعلوا لكل قسم عللاً وأغراضاً. فالمسند إليه يتقدم ():
1 - لأنه الأصل ولا مقتضى للعدول عنه، كتقديم الفاعل على المفعول، والمبتدأ على الخبر.
2 - أو ليتمكن في ذهن السامع لأن في المبتدأ تشويقاً إليه.
3 - أن يقصد تعجيل المسرة إن كان في ذكره تفاؤل، أو المساءة إن كان فيه ما يتطير به.
4 - أو إيهام أن المسند إليه لا يزول عن الخاطر.
5 - أو إيهام التلذذ بذكره.
6 - أو تخصيص المسند إليه بالخبر الفعلي إن ولي حرف النفي.
7 - أو تقوية الحكم وتقريره.
8 - أو لإفادة العموم.
* كما يتقدم المسند لأغراض منها ():
1 - تخصيص المسند بالمسند إليه كقوله تعالى: ?وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ? ().
2 - التنبيه من أول الأمر على أنه خبر لا نعت.
3 - التفاؤل بتقديم ما يسر مثل: عليه من الرحمن ما يستحقه.
4 - التشويق إلى ذكر المسند إليه.
* ومن أغراض تقديم متعلقات الفعل ():
1 - الاختصاص: كقوله تعالى: ? إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ? ().
2 - الاهتمام بالمقدم كقوله تعالى: ? قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ? ().
3 - التبرك: مثل قولك: قرآناً قرأت.
4 - رعاية الفاصلة كقوله تعالى: ? فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ? ().
وهذه العلل أو الإفادات أو الأغراض يمكن تقسيمها إلى قسمين:
أ - قسم لفظي له صلة بالنظم، والهدف منه تحسين العبارة من الناحية الشكلية، وإضفاء طابع الجمالية والانسياب على العبارة كمراعاة الفاصلة والضرورة الشعرية.
ب - قسم دلالي يختص بالمعاني الإضافية المتولدة عن التقديم كالعناية والاهتمام والتخصيص والتقوية.
التقديم والعناية:
لقد صاغ البلاغيون بعض المبادئ التي يجدر بنا الوقوف عندها في أثناء مقاربة التقديم والتأخير منطلقين من مبدأ عام يتعلق بإفادات العلاقات النظمية، ثم عن مصدر تلك الإفادات. والبلاغيون فسروا ظاهرة التقديم على أنها تركيز العناية والاهتمام بالعنصر المقدَّم، فالمتكلم يختار ترتيباً دون آخر باعتبار الظروف والمقاصد، وهو يقدم ما العناية به أشد، قصداً إلى التأثير في السامع الذي أصبح معتبراً في العملية التواصلية. إن مفهوم العناية يمكّننا من النظر في التحويلات الممكنة للتراكيب، فرغم أن كل مكونات الجملة تهم المتكلم إلا أن هذا الاهتمام وهذه العناية ليسا على درجة واحدة، فالمقدم درجة الاهتمام به تفوق غيره. يقول الجرجاني: " وإنما يكون التقديم والتأخير على قدر العناية والاهتمام " ().
إذن فالأهم واجب التقديم، وهذا أصل في تعليل التقديم -أو كالأصل- وهو من جوامع الكلم، وله اطراد في تعليل حالات التقديم والتأخير المختلفة. فتقديم المسند إليه، وتقديم المسند، وتقديم متعلقات الفعل، كل ذلك يكون من أجل العناية والاهتمام ولهذا عدَّ د. إلياس ديب بيان الأهمية أهم الدواعي البيانية لتعليل التقديم، وأصلاً لباقي المتعلقات البلاغية الأخرى (). وتفسير هذا: أن التقديم دليل على أن المقدَّم هو الغرض الأهم. ففي قوله تعالى: ? لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ ? ()، فقد قدّم اسم الإشارة الذي يريد به البعث، فكان دليلاً على أهمية البعث، وأن الكلام قد سيق لأجله. وفي قوله تعالى: ? لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ? () قدَّم (نحن وآباؤنا) على اسم الإشارة (هذا)، فكان ذلك دليلاً على أهمية المبعوثين، وهم القصد من الحديث وليس البعث.
¥