تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لكن عبد القاهر يشير إلى لمحة دلالية غاية في الجمال والروعة إذ يجعل المعنى المتولد من الجملتين السابقتين ليس على إطلاقه، لكن هناك بعض الاستثناءات؛ منها: إذا كان أحد المعرفتين (اسم فاعل) أو (صفة) وبدئ به كان الغرض الدلالي مختلفاً عما سبقت الإشارة إليه. ومثال ذلك: قولك: (اللابسُ الديباجَ صاحبُك) فليس الغرض هنا إثبات لبس الديباج له، لأن معاينتك إياه تنبئك عن ذلك. يقول عبد القاهر: " متى رأيت اسم فاعل أو صفة من الصفات قد بدئ به فَجُعِلَ مبتدأ، وجعل الذي هو صاحب الصفة في المعنى خبراً، فاعلم أن الغرض هناك غير الغرض إذا كان اسم الفاعل أو الصفة خبرا، كقولك: (زيدٌ المنطلقُ) " ().

وينعي عبد القاهر على سيبويه رأيه الذي يجعل فيه الابتداء بأحد المعرفتين (بالخيار) ()، ويُعرِّض به دون أن ينص على اسمه، ثم ينقض رأيه ويدلل على فساده بسوق العديد من الأمثلة والشواهد الشعرية ().

أما الزمخشري فيسلك المسلك التطبيقي للتدليل على رأيه الذي ذهب إليه، ففي تفسيره لقوله تعالى: ? وَظَنُّوا أَنَّهُمُ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اْلَّلهِ? () يقوم بتعيين المعرفتين وهما (مانِعَتُهم) و (حصُونُهم) ثم يعتمد (مانعتهم) خبراً مقدماً، و (حصونهم) مبتدأ مؤخراً، ويجعل مدار النظم في هذه الآية هي الدلالة. يقول: " فإن قلت: أي فرق بين قولك: (وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم) وبين النظم الذي جاء عليه؟ قلت: في تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم، وفي تصيير ضميرهم اسما لـ (إن) وإسناد الجملة إليه، دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة، لا يبالي معها بأحد يتعرض لهم أو يطمع في معازتهم، وليس ذلك في قولك: وظنوا أن حصونهم تمنعهم " ().

فهو يجعل المعنى في الآية على النظم الذي وردت به في الذكر الحكيم، على فرط ثقتهم بحصانة ومنعة هذه الحصون، أي إثبات فعل المنع لكن لمن؟ فيكون تعيين الحصون بهذا الفعل وهذا هو المقصد من نظم هذه الآية. بينما لو قدم (حصونهم) لكان المعنى على استمرار الثقة بفعل التحصن، وهذا ما لا يستقيم مع الأحداث إذ أجلاهم المصطفي? عن هذه الحصون فكيف يستمر فعل التحصن وهو منقوض. هكذا يطبق الزمخشري نظرة عبد القاهر في النظم كما أرادها، يطبقها تطبيقاً جلياً على هذه الآية الكريمة، ويخرج لنا بالدلالات الرائعة والمعاني الجليلة.

والرازي يسوق المسألة بشيء من التفصيل فيجعل المعنى في قولك: (زيدٌ المنطلقُ) على ثبوت صفة (الانطلاق) لكن ليس لمتعين، ولذا فقولك: (زيد) تعيين لصاحب هذه الصفة، أي حصر هذه الصفة في جانب هذا المتعين (). أما قولك: (المنطلقُ زيدٌ) فعناه على اعتقاد من اعتقد انطلاق إنسان ما ولم يعينه، فيجعل من تقديم (المنطلق) تعيين لهذا الإنسان وتخصيص له ().

ويلخص الرازي المسألة بقوله: " الحاصل أن الإخبار يجب أن يكون عما يعرف بما لا يعرف، فإذا قلنا: (المنطلقُ زيدٌ) فالمنطلق معلوم، أما الشخص الذي هو المنطلق فمجهول. وإذا قلت: (زيدٌ المنطلقُ) كان المقصود إما حصر انطلاق معين، أو حصر حقيقة الانطلاق " ().

لكن الرأي العجيب الذي جاء به الرازي في نهاية بحثه للمسألة إذ يقول: " المبتدأ موصوف، والخبر صفة، فكما وجب أن يكون أحدهما في الوجود أولى بأن يكون موصوفاً، والآخر صفة، فكذلك في اللفظ، فإذا قلنا: (اللهُ خالقُنا) و (محمدٌ نبيُّنا)، فالخالقية صفة لله تعالى، والنبوة صفة لمحمد ? فهما في الحقيقة متعينان للخبرية، ولا يصلحان للمبتدئية " ().

إن الرازي لما حاول هنا تقسيم المسألة ساق ما يخالف الإجماع، فقد أراد جعل كل ما يصلح صفة (خبراً) سواء قدّم أو أخّر، وعلة ذلك عنده أن الصفات لا تصلح إلا للخبرية. وهو في هذا الرأي مخالف لما قرره النحويون في هذه المسألة، وكذلك مخالف لرأي عبد القاهر، ولم يذكر حجة أو دليل على صحة ما ذهب إليه.

ويسير السكاكي على الدرب نفسه (). ويتبعه على النهج ذاته القزويني دونما تجديد يذكر ().

تنوير:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير