تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

كان نظر البلاغيين لجزئية الابتداء بأحد المعرفتين متمحوراً في الاستشهاد القرآني حول آية قرآنية وحيدة هي قوله تعالى: ? وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ ? (). فقد وردت المعرفتان هنا (مانعتهم) + (حصونهم) معرفتان بالإضافة إلى الضمير. ونلمح تواتر البلاغيين على تناول هذه الآية بشيء من التفصيل والتحليل كما يلي:

فضياء الدين (ابن الأثير) في (المثل السائر) يتعرض للآية في أثناء بحثه باب " التقديم والتأخير "، ويخرج الآية على أنها من باب (تقديم الخبر على المبتدأ)، وذلك بإقرار (مانعتهم) خبرا مقدما على (حصونهم) المبتدأ المؤخر، ثم يفلسف هذا التخريج معتمدا على ذوقه التحليلي، وتحليله الذوقي فيقول: " إنما قال ذلك ولم يقل: (وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو (مانعتهم) لأن في تقديم الخبر الذي هو (مانعتهم) على المبتدأ الذي هو (حصونهم) دليلا على فرط اعتقادهم في حصانتها، وزيادة وثوقهم بمنعها إياهم، وفي تصويب ضميرهم اسما لـ (أن)، وإسناد الجملة إليه دليل على تقريرهم في أنفسهم أنهم في عزة وامتناع لا يبالي معها قصد قاصد، ولا تعرض متعرض، وليس شيء من ذلك في قولك: (وظنوا أن حصونهم مانعتهم من الله) " ().

إذن التقديم هنا لغرض محدد ومقصود هو إبراز الخلفية النفسية لهؤلاء اليهود المتحصنين بهذه الحصون؛ إذ إنهم قوم ماديون يحتاجون دوما إلى الوثوق بما يلمس أي بالمادة، دون ما يحس. ألم يقولوا لنبي الله موسى ? حكي القرآن الكريم: ? فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً? (). فهذه المادية هي عين المعنى المراد في آية سورة الحشر، فقد وثقوا بالحصون وبأنها تمنعهم – حتى من الله – وقد خاب ظنهم فطردوا منها على يد المصطفي?.

والعلوي في (الطراز) يسير على النهج نفسه، إذ يصنف الآية على أنها من باب (تقديم الخبر على المبتدأ) بل ويكاد ينقل لنا نص (ابن الأثير) مع بعض التغيير في هيكل النص دون روحه، يقول: " إنما قدّم قوله (مانعتهم حصونهم من الله) وهو حبر المبتدأ في أحد وجهيه، ليدل بذلك على فرط اعتقادهم لحصانتها، ومبالغة في شدة وثوقهم بمنعها إياهم، وأنهم لا يبالون معها بأحد، ولا ينال فيهم نيل. وفي تقرير ضمير (هم) اسما وإسناد المنع والحصول إليهم، دلالة بالغة على تقريرهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة، لا ترمى حوزتهم، ولا يغزون في عقر دارهم، ولو أخر الخبر لم يعط شيئا من هذه الفوائد " ().

فالنص هنا يكاد يتطابق مع نص (ابن الأثير) تطابقا تاما، ولا يتميز عنه سوى بإدراك (العلوي) لمسألة (الابتداء بأحد المعرفتين)، يلمح ذلك من قوله: (في أحد وجهيه) أي أن هذا الخبر المقدم قد يتحرك (سلبا) فيكون خبراً مؤخراً، أو ينسخ حكمه فيكون في موقعه مبتدأً. إن العلوي لم يسمح لنفسه أن ينطلق بفكره، فلم يهتم باستنباط الدلالات الممكنة من وراء هذا التأخير، واكتفي بتكرار عبارة ابن الأثير بمعناها فقال: (ولو أخر الخبر لم يعط شيئاً من هذه الفوائد).

ونلحظ أن كلاً من ابن الأثير والعلوي من أنصار مدرسة التجديد أو محاولات التجديد التالية لمحاولات السكاكي وأنصاره المدرسيين المنطقيين. والسؤال الآن هل تناول السكاكي هذه المسألة هو وتلامذته بالبحث والتحليل؟ والإجابة أن السكاكي قد بحث هذه الجزئية في بحثه لأحوال المسند عندما تعرض لـ (تعريف المسند). فقد أشار السكاكي إلى أن تعريف المسند لا بد أن يعتمد قبل ذلك على تعريف المسند إليه، وهو ما قرره النحويون أن الأصل في الجملة الاسمية أن يُعرَّف المبتدأ ويُنَكَّر الخبر. لكن السكاكي يجعل تعريف (المسند) واجباً في حالة واحدة هي: إذا كان المسند عند السامع أو المتلقي متشخصاً أي (معروفاً) بأحد طرق التعريف، وذلك لأن تعريف المسند استلزم قبل ذلك كون المسند إليه معرفة ().

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير