فالسياق هنا يقتضي الابتداء بالضمير الدال على الذات الإلهية لإشعار الرهبة في النفس عند سماعه. و (هو) ضمير دال مؤثر في مثل هذا السياق، ثم أتبع بصفة واسم دال على التمكن من الأمور، وطلاقة التصرف فيها والقدرة عليها، وذلك بمطلق العلم بل بمطلق الحكمة. لكن هل يمكن أن تستفاد هذه المعاني والدلالات من تأخر الضمير المبتدأ به (هو) ليصير خبراً؟ تأمل مثلاً قولنا: (والعزيز الحكيم هو) أننا بذلك نرى استقامة في البنية الهيكلية، وفي المعنى الدلالي في غير القرآن، لأن المعنى حينئذ: أن هناك أعزاء كثيرون فاقتضى منك ذلك تحديد المقصود بهذه العزة فقلت: (هو)، وحاش لله أن يكون هذا المقصود.
إذن التخريج النحوي والبلاغي لهذه المسألة يطرد على مادون القرآن، أما النص القرآني فالمسألة تحتاج إلى دقة نظر عند بحث هذه الآيات، دون قولبة الأغراض البلاغية الجاهزة، وصبها على هيكل الآيات القرآنية دون وعي، فلكل آية ذوق وطعم لمن أراد أن يتذوق.
وخلاصة القول: أن الرأي النحوي وقف في بحث هذه المسألة على الأصل الذي ينبغي أن تكون عليه هذه الهيكلة من حيث كون (المبتدأ) معرفة و (الخبر) نكرة، فهذا هو الهيكل النسقي للجملة الاسمية عندهم. وإن كان بعض النحويون قد تطرق بالتحليل إلى المعاني المتولدة من إتيان (المبتدأ والخبر) معرفتين مثلما فعل المبرد وابن يعيش، رغم أن هذه الإشارة لم تكن كافية من جانب النحويين، فقد كان الأولى بهم أن يفصلوا وهم أهلٌ لذلك دون غيرهم.
أما البلاغيون فقد استبان الأمر عندهم، فتناولوا المسألة مقرين إياها بداية، ومحللين لكل تركيب على حدة من حيث المعاني المتوخاة منه، فلكلٍ دلالات تختلف تماماً عن الآخر. وقد وجدنا صدى هذا الجهد الذي فتق مباحثه عبد القاهر، عند الزمخشري والرازي والسكاكي والقزويني. والتحليل البلاغي في هذه المسألة لم يتخذ الأساس النحوي منطلقاً له، بل اتخذه مرمى للنقد، وغرضاً للهدم، وذلك لعدم اتكاء الأساس النحوي في هذه المسألة على روح التراكيب، وفنية الأداء، واكتفائه برصد الهيكلة الجملية التي تحكم علاقات الأركان فيها.
تلك هي بعض إشارات التلوين الصوتي بالعدول الرتبي، أي بتوظيف فنية التقديم والتأخير في سياقات الجمل القرآنية، وما اعتمدت عليه من تخريجات للنحويين والبلاغيين، دارت معظمها على القواعد الجامدة دون مراعاة لروح النص القرآني وتفردات سياقاته.
الهوامش:
1. - ينظر: د. فايز الداية، علم الدلالة العربي، معهد الإنماء العربي، حلب، 1995، 21.
2. - عبد القاهر، دلائل الإعجاز، 10.
3. - ينظر: أبو حيان التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، 1/ 121.
4. - ينظر: د. عبد الحكيم راضي، نظرية اللغة في النقد العربي، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1997، 213.
5. - عبد القاهر، دلائل الإعجاز، 111.
6. - العلوي، الطراز، 2/ 66.
7. - ينظر: عبد القاهر، دلائل الإعجاز، 186. – الرازي، نهاية الإيجاز، 159. – الرضي، شرح الكافية، 1/ 100.
8. - د. إبراهيم أنيس، من أسرار اللغة، 323.
9. - سورة الأنعام: آية رقم (100).
10. - ينظر: د. محمد عبد المطلب، البلاغة و الأسلوبية، 252.
11. - برجشتراسر، التطور النحوي، 133.
12. - ينظر: د. تمام حسان، الأصول، 385.
13. - ينظر: القاضي الجرجاني، الوساطة، 412 – 413.
14. - ينظر: د. صلاح فضل، علم الأسلوب، 89 – 90.
15. - ينظر: د. سعد مصلوح، الدراسة الإحصائية للأسلوب، 106.
16. - ينظر: د. عبد الحكيم راضي، نظرية اللغة، 489.
17. - د. صلاح فضل، علم الأسلوب، 81.
18. - ينظر: د. تمام حسان، الأصول، 47.
19. - ينظر: د. يحيى أحمد، الاتجاه الوظيفي ودوره في تحليل اللغة، دار الثقافة، الدار البيضاء، 1998، 76.
20. - ينظر: د. محمد عبد المطلب، البلاغة والأسلوبية، 248.
21. - د. صلاح فضل، علم الأسلوب، 93.
22. - عبد القاهر، دلائل الإعجاز، 364.
23. - ينظر: د. عبد الحكيم راضي، نظرية اللغة، 211.
24. - ينظر: د. محمد أبو موسى، دلالات التراكيب، 175.
¥