تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومع هذه الشدة المستفادة من تكرار حرف القاف في الآية، يُحدِث النص القرآني توازتاً إيقاعياً جميلاً عندما يكرر حرف الباء (8 ثماني مرات) من الآية، وذلك لتخفيف هذه الشدة المتولدة عن تكرار القاف، إذ الباء حرف خفيف في النطق. وهذه التكرارات أكسبت السياق في الآية إيقاعاً مبهجاً يدركه الوجدان السليم سمعاً وبصراً أيضاً ().

* ومن ذلك أيضاً ما نلحظه من تكرار لحرف الميم في (16 ستة عشر موضعاً) في قوله تعالى: ?قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ? ()، ومن هذه الميمات ما هو مشدّد ومدغم، ويمكن أن يرتفع العدد بها في حالة النطق المجوّد إلى (21 إحدى وعشرين ميماً) تتوالى في آية واحدة، وهذا أمر يفوق بكثير معدل تكرار حرف الميم في آيات أطول من هذه في القرآن الكريم. يقول د. عبد الفتاح لاشين: " في (أمم ممن معك) ثماني ميمات متواليات، والأصل (أمم مِنْ مَنْ معك) قلب تنوين (أمم) ميماً، فهذه ثلاث ميمات، ثم قلبت نون (مِنْ) ميماً، فهذه خمس ميمات، ثم قلبت نون (مَنْ) ميماً، فهذه سبع ميمات، والميم الثامنة ميم (معك). وقلب النون ميماً واجتماع هذه الميمات متفق عليه من جميع القراء " ().

فتكرار حرف الميم هنا يوحي بشدة الحالة التي كان عليها نوح ? حين كانت السفينة تكابد الأمواج التي أغرقت قومه. ويعلل عبد الكريم الخطيب التداعي الصوتي لحرف الميم في الآية الكريمة بقوله: " الميم وحده حرف ثقيل مضغوط يشد عضلات الفم كلها حتى يؤدى على هيئة صوت، فكيف إذا كرر؟! ثم كيف يكون ميزانه من الثقل حتى يتكرر بهذه الكثرة المتلاحقة؟ وليس هذا النغم المجلجل المتتابع من هذه الميمات إلا أداء لما يقتضيه المقام من دواعي القوة التي تحيط بالموقف وتظاهره. فهذا نوح عليه السلام قد طوفت به وبمن معه السفينة في مجاهل هذا الطوفان المروع العاتي الذي أتى على كل شيء، حتى أذن الله لهذه الغمة أن تنجلي، وتصل السفينة إلى شاطئ الأمان والسلام. فما كانت هذه الميمات إلا مراعاة لما يقتضيه الحال من دواعي القوة التي تحيط بهذا الموقف " ().

هكذا يرتبط التداعي الصوتي بما يحيط به من دلالات سياقية في الآيات الكريمة، ليبرز الصورة الكلية لهذه الدلالات في حيزها الدلالي الأعم، وفي تعاضدها مع سياقات السورة القرآنية كلها.

2 - التكرار الصوتي:

يعتمد التكرار الصوتي على معطيات المحسنات اللفظية، وما تحدثه من أثر جمالي نابع من فنية تكراراها على نسق تعبيري معين، ويتخذ من الاتكاء على تكرار المقاطع المكونة لبنية اللفظ أساساً لإحداث هذا الإيقاع.

والنظر إلى التكرار الصوتي لا بد وأن يشمل في طياته الإشارة إلى كلية النظرة، وإدراك بنية التكرار كوحدة متلاحمة الأجزاء، ذات بناء نسيجي موحد. وعليه فالواجب أن نعتمد البنية التكرارية على أنها ليسن مجرد تقنية بسيطة ذات فوائد بلاغية أو لغوية محددة، وإنما يجب النظر ‘ليها على أنها " تقنية معقدة تحتاج إلى تأمل طويل يضمن رصد حركيتها وتحليلها، انطلاقاً من معطياتها، ومستويات أدائها وتأثيرها، فضلاً عن دورها الدلالي التقليدي الذي أطلق عليه القدماء (التوكيد)، وفائدتها في جمع ما تفرّق من الدلالات النصية " ().

وهذا التكرار الصوتي يتمثل في التوظيف القرآني في سياقات متنوعة، نحاول تلمسها فيما يلي:

1 - التكرار بالجناس:

الجناس تكرار موسيقي، وهو " ما تكون الكلمة تجانس أخرى في تأليف حروفها، وما يشتق منها " (). وهو لون بديعي عرفه أهل العربية من قديم، واستعملوه في نثرهم وشعرهم، إلا أن استعمالهم له في النثر كان أكثر، نظراً لما في الشعر من ألوان موسيقية تغنيه عن الجناس.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير