والجناس ظاهرة تكرارية تعتمد على تكرار لفظ ما تكراراً تاماً، أو تكراراً غير تام لبعض الحروف فقط، وذلك عند اختلاف لفظي الجناس. وهو وسيلة فنية لتحقيق مزايا الجرس الصوتي الموسيقي الذي ينبه الأذن والعقل. كما أنه ينبغي توظيفه بحرفية شديدة، ودقة متناهية، وذلك لأنه إذا ما كثر في الكلام دخل في إطار الصنعة والتكلّف، فيفسد الكلام. يقول عبد القاهر: " أما التجنيس فإنك لا تستحسن تجانس اللفظين إلا إذا كان موقع معنيهما من العقل موقعاً حميداً، ولم يكن مرمى الجامع بينهما مرمى بعيداً " ().
وجمالية الجناس تقوم على أساس تكرار مجموعة من الحروف في كلمتي الجناس مما يمنح الكلام صفة النغمية و يقول السيوطي: " فائدته الميل إلى الإصغاء إليه، فإن مناسبة الألفاظ تحدث ميلاً وإصغاءً إليها، ولأن اللفظ المشترك إذا حُمِلَ على معنى، ثم جاء والمراد به آخر، كان للنفس تشوّق إليه " ().
وهذه الجمالية أيضاً هي التي دعت د. صلاح فضل إلى حصرها في " تكرار الملامح الصوتية ذاتها في كلمات وجمل مختلفة بدرجات متفاوتة في الكثافة، وغالباً ما يهدف ذلك إلى إحداث تأثير رمزي عن طريق الربط السببي بين المعنى والتعبير، حيث يصبح الصوت مثيراً للدلالة " ().
ودون التطرق إلى تفاصيل الجناس وأنواعه التي سبق إيرادها في الفصل الأول، فإننا نحاول تبيان بعض مواضع الجناس في سياقان القرآن الكريم، تأثيراتها الجمالية، من خلال رصد بعض هذه المواضع كما يلي:
* قوله تعالى: ? شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ? (). حيث جانس بين (اليسر) و (العسر) باختلاف حرف واحد هو (الياء) في الأولى، و (العين) في الثانية. وصوت الياء غاري نصف علّي مجهور مرقق، أما صوت العين فهو حلقي رخو مجهور مرقق، فالصوتان يشتركان في صفتي الجهر والترقيق.
ودلالة الآية الكريمة على بيان نعم الله على عباده في تشريع الصيام، وما يلحق به من أحكام ومباحات لتلك الأحكام، وكلها على إرادة التيسير الإلهي للقيام بهذه الفريضة، دون التعسير عليهم ().
وبملاحظة سياق الجناس في الآية نجد أنه على الشكل التالي:
يريد الله بكم اليسر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لا يريد بكم العسر
1 + 2 + 3 + 4 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 + 2 + 3 + 4
فنلحظ تكرار الفعل (يريد) في سياق طباق السلب، وتكرار شبه الجملة (بكم)، ثم التكرار الصوتي بتوظيف بنية الجناس الذي أتي ختاماً لهذه التكرارات قصداً إلى تأكيد دلالة معنى اليسر لا العسر. ولو كان السياق التعبيري – في غير القرآن – لأمكن القول: (يريد الله بكم اليسر لا العسر)، ولاستقامت الدلالة على هذا السياق، وكذلك لاستقام تخريج بنية الجناس باعتباره الملمح التكراري الوحيد، لكن هذا لم يحدث!
ولذا فالنظر إلى فنية التكرار بالجناس في هذه الآية على صورته الجزئية المفردة دون النظر في إطاره العام بتعاضده مع بقية الصور، يعدّ إجحافاً لجماليات هذه التكرارات، وإهداراً لنصياتها المتنوعة. ويؤد هذا ما ذهب إليه محمد الطاهر بن عاشور في تحليله لهذه الآية بقوله: " قد كان يقوم مقام هاتين الجملتين جملة قصر نحو: (ما يريد بكم إلا اليسر)، لكنه عدل عن جملة القصر إلى جملتي إثبات ونفي لأن المقصود ابتداء هو جملة الإثبات لتكون تعليلاً للرخصة، وجاءت بعدها جملة النفي تأكيداً لها " ().
ولذا فإن الجناس الحاصل هنا بين كلمتي (اليسر) و (العسر) ليس على إرادة إبراز الملمح الصوتي فقط، بل أيضاً ليسهم الجناس في تعضيد دلالة التأكيد على تعليل الرخصة الإلهية في جانب من لم يستطع الصوم.
¥