وعلى هذا التخريج أكثر المفسرين والموجهين للقراءات (). ومن الجميل هنا أن نورد قولاً لأبي حيان إذ يقول: " لا وجه لترجيح إحدى القراءتين على الأخرى، لأن كلا منهما متواتر، فهما في الصحة على حد سواء " (). وهو الأساس الذي عليه الجميع حين البحث في جماليات القراءات القرآنية.
ولا شك أن الأساس اللغوي هو الذي حكم توجيهات الدلالة في هاتين القراءتين، ومن ثم مُنِحَت هذه التفسيرات حيزاً سياقياًً فسيحاً جعل من قراءة الفعل بألف المفاعلة أعمّ في الدلالة من قراءته بدونها، فجاءت العلاقة بينهما على العموم والخصوص مما أثرى دلالة هذا السياق.
* ومن ذلك أيضاً قراءة كلمة (تمسّوهن) بألف المفاعلة وبغيرها () في قوله تعالى: ? لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِين ? () َ.
فقراءة (تمسّوهن) ذات الأصل الثلاثي (مسّ) يرى فيها سيبويه أنها تندرج في مجموعة الأفعال الدالة على النكاح مثل (نَكََحَ) و (سَفَدَ) و (قََرَعَََ)، وأفعال هذا المعنى غالباً ما تكون ثلاثية ().
والصيغة بهذا المعنى الثلاثي تدل على تفرّد أحد طرفي الحدث بالفعل دون الطرف الآخر، وهذا يتسق مع طبيعة هذا الفعل، إذ أنّ الفاعل هو (الرجل)، وبذلك تستقيم دلالة الفعل بهذا الشكل.
أما قراءة ألف المفاعلة فعلى وجه المشاركة في الفعل الذي يقتضي تلك المشاركة، وعلى هذا المعنى تتكئ القراءة ().
ويلحظ أن سياق الكلمة في نسيج الآية يُشْعِر بأن الفعل هنا ليس على حقيقته بل هو على الفرض الحدوثي، أي أنه لم يحدث بعد، بدليل أن السياق يتسق في شأن حكم الطلاق لمن لم يُدْخَل بها، فالحدث هنا لم يقع بعد. ولذا نجد الراغب يقول: " المسّ يقال فيما يكون معه إدراك بحاسة اللمس، وكني به عن النكاح فقيل: مسّها، وماسّها " (). فهما بمعنى واحد عند الراغب، إذ العبرة عنده بالفعل فقط، أي أن العرف اللغوي لا يفرق بينهما في أصل المعنى.
إن التغاير التصريفي هنا قائم على إدراك أوجه متنوعة من دلالات المعاني بحسب زيادات الصيغ الصرفية، إذ الزيادة في المبنى تتبعها زيادة في المعنى، وهذا ما حدث في قراءة هذه الكلمة.
* ومن ذلك أيضاً قراءة كلمة (مُبينة) بالفاعلية والمفعولية () في قوله تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ? ().
فالتنوع القرائي الحادث في كلمة (مبينة) في هذه الآية إنما منشؤه الأصل في الجانب التصريفي، غذ تقوم قراءة الكلمة بفتح الياء على ككونها اسم مفعول من غير الثلاثي (بَيَّنَ – يُبَيِّنُ). وقد تمّ إسناد الفاحشة إلى الفاعل الذي بيَّنها وهو الله ?،ذلك لأن الفاحشة لا يمكن أن تُبَيَّن بذاتها، فقد تم تبيانها من خلال تشريع الله ?.
أما القراءة بكسر الياء على كون الكلمة اسم فاعل من غير الثلاثي، فالفعل فيها مسند إلى الفاحشة على سبيل المجاز، لأن الفاحشة لا تُبَيِّن، بل هي التي تُبَيَّن من خلال تشريع الله ?. غير أن الأصل في المعنى أن تكون هذه الفاحشة (مُبَيَّنة) أي مفعولة، لأن الله ? هو الذي وضّح سبل اجتنابها، وعقوبة من يقترفها. وهذه القراءة تخرَّج على المجاز العقلي الذي تمّ فيه إسناد الفعل إلى غير فاعله الحقيقي نظراً لوجود القرينة الشرعية الدالة على هذا الفاعل الحقيقي في هذه الآية وهو المشرّع الأعلى؛ الله ? ().
وهذا التخريج أشدّ في إبراز صورة التغليظ الأمري الموجه للمخاطَب بهذه الآية الكريمة، إذ تمّ نهيه عن إرث النساء كرهاً كما كان حال أهل الجاهلية، وما لذلك سبيل إلاّ أن تقع المرأة في الفاحشة المبيَِنة الواضحة بذاتها ().
¥