تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ويرى أبو حيان أن العطف وسيلة للسبك بين هاتين الآيتين " لأنهما متعاقبتان، إذ أحدهما للتحريم، والأخرى للتحليل، فناسب أن يعطف هذه على هذه " (). وهذا العطف هو الذي سوّغ أن يكون الفعل على صورة المبني للمجهول رعاية للفعل الذي قبله. فالحذف هنا دليل على أن الفاعل هو المولى ? لأنه وحده بيده التحريم والتحليل، وغرض حَذْف المسند إليه هو تعظيم شأن المحذوف.

أما قراءة الفعل بالبناء للمعلوم بإضمار الفاعل، وعودته على أقرب مذكور له، وهو المستفاد من السياق الدال على الذات العلية. فهو كما يرى ابن عاشور بقوله: " أسند التحليل إلى الله تعالى إظهاراً للمنة، ولذلك خالف طريقة إسناد التحريم إلى المجهول في قوله: ?حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ ? ()، لأن التحريم مشقة، فليس المقام فيه مقام منة " (). فسياق الحال هو الذي استدعى مثل هذا البناء للمعلوم أو المجهول للفعل في القراءتين.

* ومن ذلك قراءة كلمة (السارق) () بالرفع والنصب في قوله تعالى: ? وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ? ().

فقراءة النصب على أنّ الكلمة مفعول به مقدّم. يقول الفراء: " النصب فيها جائز، كما يجوز: أزيدٌ ضربته، وأزيداً ضربته " (). وعلى هذا يكون المعنى على نسق الاهتمام بمن وقع عليه الأمر الإلهي بقطع اليد، ذلك لأن مناط الحكم ليس القطع، وإنما (المقطوع له)، لأنه مناط الاهتمام في هذا التشريع الذي يحفظ للإنسان كرامته وآدميته.

أما قراءة الرفع فهي على حذف المسند (الخبر)، ويُترك إدراك جمالية هذا الحذف للمتلقي. يقول الفراء: " إنما تختار العرب الرفع في (السارق والسارقة) لأنهما غير موقَّتَين فَوُجِّها توجيه الجزاء، كقولك: (من سرق فاقطعوا يده)، فمن لا يكون إلا رفعاً. ولو أردت سارقاً بعينه، أو سارقة بعينها، كان النصب وجه الكلام " (). فالرفع للكلمة في هذه القراءة على دلالة عدم التعيين والتحديد لأشخاص بعينهم، بل الحكم على الإبهام ليشمل في ذاته كل سارق وسارقة، بخلاف قراءة النصب التي تنحو نحو تحديد سارق بعينه بدليل عمل الفعل فيه بالنصب.

كما أن الفراء يرى أن الرفع هنا أيضاً أولى من النصب لتضمن الآية معنى الشرط، إذ القول على دلالة (من يسرق فاقطعوا يده)، فتم رفع كلمة (السارق) على الابتداء هنا لتضمنها معنى الجزاء (الشرط)، وحُذِفَ الخبر للعلم به.

ويرى العكبري أن إعراب (السارق) على الابتداء لا خلاف فيه، لكن " في الخبر وجهان؛ أحدهما: هو محذوف تقديره عند سيبويه: (وفيما يتلى عليكم). ولا يجوز أن يكون عنده (فاقطعوا) هو الخبر من أجل الفاء، وإنما يجوز ذلك فيما إذا كان المبتدأ الذي وصلته بالفعل أو الظرف، لأنه يشبه الشرط، والسارق ليس كذلك. والثاني: أن الخبر (فاقطعوا أيديهما)، لأن الألف واللام في (السارق) بمعنى الذي، إذ لا يُرَاد به سارق بعينه " ().

فالخبر محذوف على الرأي الأول لدلالة العلم به، لأن الحكم تالٍ له في الآية. يقول الألوسي في تعقيبه على رأي السابقين: " الرفع على وجهين؛ أحدهما ضعيف وهو الابتداء، وبناء الكلام على الفعل. والآخر قوي بالغ كوجه النصب، وهو رفعه على خبر ابتداء محذوف دلّ عليه السياق. وإذا تعارض لنا وجهان في الرفع أحدهما قوي و الآخر ضعيف، تعيّن حمل القراءة على القوي " (). وعلى هذا فالأقرب للبلاغة التشريعية هو قراءة الرفع لدلالتها على عموم الحكم وشموله، دون تعيين لمن وُجِّه إليهم مثل هذا التشريع، واعتماد حذف المسند (الخبر) لدلالة السياق عليه.

* ومن ذلك قراءة كلمة (أفحكم) () بالنصب والرفع في قوله تعالى: ? أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ? (). فقراءة النصب لا إشكال فيها، إذ هي على عدّ الكلمة مفعولاً به مقدّم على فعله. وهذا التقديم على دلالة التهكم من هؤلاء الكافرين المصدّقين لفعل الكهّان الذين يحكمون للناس حسب أهوائهم ().

أما قراءة الرفع بالابتداء، فالإشكال فيها في تحديد خبر المبتدأ. وفي هذا رأيان:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير