تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولنحاول تأمل سياق الآية بدون الضمير (ومن يتول فإن الله الغني الحميد). ألا نلمح هنا انتظاراً للمعنى المكمِّل فنسأل: نعم إن الله الغني الحميد ماذا؟! أهو أغنى الأغنياء؟! أم ماذا؟ هناك انتظار دلالي لمعنى يتخلَّق في الذهن ولم يكتمل، وهو ما يعبّر عنه في نظريات التلقي الحديثة بأفق التوقّعات. فإذا ما أرجعنا الضمير إلى نسق الآية على قراءة الجمهور فإن الدلالة تتسق مع معطيات السياق القبلي والبعدي، وتتعاضد لإفادة معنى القصر، أي أنّ الله ? هو وحده الغني الحميد.

ويحلل الأزهري هذا الإشكال بقوله: " من قرأ (فإن الله هو)، فـ (هو) عماد، ويسميه البصريون فصلاً، ومعناه: أنّ الله هو الغني دون الخلائق، لأن كلّ غني إنما يغنيه الله، وكلّ غني من الخلق فقير إلى رحمة الله. ومن قرأ (فإن الله الغني الحميد) فمعناه: أن الله الذي لا يفتقر إلى أحد " (). وهذا التحليل يدور في فلك واحد، ويتسق مع إثبات صفة الغنى لله بإثبات الضمير أو حذفه.

أما مكي فيذهب إلى أن " إثبات (هو) أبْين في التأكيد، وأعظم في الأجر، وهو الاختيار لذلك، لأنّ الأكثر عليه " (). وذلك لأنّ الزيادة دوماً ما يُراد منها تحقيق غرض ما، ولذا حشدت قراءة الجمهور بزيادة (هو) كل ما تستطيعه لتقوية معنى الغنى لله وحده، وقصره عليه بالضمير.

ويجمل ابن عاشور هذه المجادلة بقول يوفّق بين القراءتين بالجمع بينهما في تأدية غرض واحد هو إفادة دلالة القصر لهذه الصفة لله ?. إذ " الجملة مفيدة للقصر بدون ضمير فصل، لأن تعريف المسند إليه والمسند من طرق القصر. فالقراءة بضمير الفصل تفيد تأكيد القصر" (). فالقراءة بالضمير لتأكيد القصر المستفاد من تعريف المسند إليه والمسند. وبدون الضمير لإفادة معنى القصر فقط. وهذا تحليل يتسق مع معطى السياق في الآية الكريمة.

* ومن ذلك قراءة جملة (انشق القمر) بزيادة (قد) () في قوله تعالى: ?اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ? (). فقراءة الزيادة على إفادة معنى التوكيد لحدوث هذا الأمر، والتماس سبيل هذا التأكيد بكل الطرق لأنه قد تحقّق وقوعه. يقول ابن جني: " هذا يجري مجرى الموافقة على إسقاط العذر، ورفع التشاكّ، أي: قد كان انشقاق القمر متوقّعاً دلالة على قرب الساعة. فإذا كان قد انشق، وانشقاقه من أشراطها، وأحد أدلة قربها، فقد توكّد الأمر في قرب وقوعها، وذلك أن (قد) إنما هي جواب وقوع أمر كان متوقّعاً. يقول القائل: انظر أقام زيدٌ؟ وهل قام زيدٌ؟ وأرجو ألا يتأخر زيدٌ. فيقول المجيب: قد قام، أي: قد وقع ما كان متوقعاً " (). فهذه الزيادة على إفادة دلالة التوكيد، ورفع الشكّ من نفس السامع لهذا الخبر إذ لم يكن معايناً له، وهو الأكثر، لأن أهل العربية ممن أسلموا لم يُعاينوا معجزة شقّ القمر على عهد المصطفى ?، فيكون التأكيد سبيلاً للتيقن من حدوث هذا الأمر ().

* ومن ذلك قراءة جملة (تحتها الأنهار) بزيادة (من) أو حذفها () في قوله تعالى: ? وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ? ().

فقراءة الزيادة على تحديد الجهة المكانية لجريان هذه الأنهار، وذلك بتقييد جهة التحتية دون إطلاقها وذلك بحرف الجر (من)، أي تحديد مصدر هذه التحتية. فالزيادة هنا على جذب الاهتمام للتفكير في حال هذه الجنات، وبيان ما أعدّه الله لعباده المؤمنين من نعيم، دون الوقوف عند شكل محدد من أشكال هذا النعيم. فكان من معطيات هذا النعيم التفكير في كيفية صياغته ووجوده، فهذه جنات تجري من تحتها الأنهار، تستحق أن تتأمل في كيفية جريان هذه الأنهار من تحت هذه الجنات. يقول ابن عاشور: " قوله (من تحتها) يظهر أنه يفيد كاشف قصَدَ منه زيادة اختصار حالة جري الأنهار، إذ الأنهار لا تكون في بعض الأحوال تجري من فوق. فهذا الوصف جيء به لتصوير الحالة للسامع لقصد الترقب " ().

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير