تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لجأوا إلى البغي والظلم والقتل؛ بغية أن يوقفوا سير الدعوة ودعاتها، وما علموا أن الله غالب على أمره، وناصر دينه.

وما هذا الانبهار، وذلك الإعجاب الذي شدَّ سامعيه إليه إلاَّ شيء كامن فيه، وهو ذلك الأمر الذي أعجبهم، وهزَّ أريحيتهم، وفعل فعله في كوامن نفوسهم، حتى عدَّه الخطابي وجهاً من أوجه إعجاز القرآن الكريم، حين قال: ((لقد قلتُ في إعجاز القرآن وجهاً آخر ذهب عنه الناس، فلا يكاد يعرفه إلاَّ الشاذ من آحادهم، وذلك صنيعه في القلوب، وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلاماً غير القرآن منظوماً أو منثوراً إذا قرع السمع خلُص إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال، ومن الروعة والمهابة في أخرى ما يخلص منه إليه، تستبشر به النفوس، وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذت حظها منه عادت مرتاعة قد عراها الوجيب والقلق، وتغشاها الخوف والفَرَق، تقشعر منه الجلود، وتنزعج منه القلوب، يحول بين النفوس ومضمراتها، وعقائدها الراسخة فيها، فكم من عدو لرسول الله ? من رجال العرب وفُتْاكِها أقبلوا يريدون اغتياله وقتله فسمعوا آيات من القرآن، فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم أن يتحولوا عن رأيهم الأول، وأن يركنوا إلى مسالمته، ويدخلوا في دينه، وصارت عداوتهم موالاة، وكفرهم إيماناً، وهو ذلك القرآن العظيم الذي لما سمعته الجن لم تتمالك أن قالت:? إنا سمعنا قرآناً عجباً * يهدي إلى الرشد فآمنا به ... ? [الجن:1 ـ 2])). ()

ولكن بعد هذا الاتفاق على هذه الروعة، والإجماع على تلك العظمة، وعلى ذلك السرِّ المؤثر الذي يجدون إيقاعه يتردد في حنايا النفس وزواياها، بعد هذا كله يفترقون، فقال الكافرون: شعر وسحر، كما حكى الله عن واحد منهم، معبراً عن رأيهم جميعاً في قوله ? فقال إن هذا إلاَّ سحر يؤثر * إن هذا إلاَّ قول البشر ? [المدثر: 24 ـ 25]، وقال المؤمنون: كلام الله رب العالمين، آمنا به كل من عند ربنا، ومن ذلك الزمن مازال الناس على مفترق الطرق في سبب هذه الروعة، وفي بيان ذلك الإعجاز، وقد أشار الخطابي إلى هذا الاختلاف في سبب إعجاز القرآن، في قوله: ((وقد أكثر الناس الكلام في هذا الباب قديماً وحديثاً، وذهبوا فيه كل مذهب من القول، وما وجدناهم بعد صدروا عن رِيٍّ؛ وذلك لتعذر معرفة وجه الإعجاز في القرآن، ومعرفة الأمر في الوقوف على كيفيته)). ()

فهم من ذلك العهد القديم مختلفون، ولا يزالون مختلفين؛ إذ إن القرآن الكريم لا تنقضي عجائبه، ولا تُحدُّ وجوه إعجازه، لذا فقد طفق العلماء قديماً وحديثاً ينظرون في أسرار القرآن العظيم، وفي ذكر وجوه إعجازه، والإشارة إليها، والإشادة بها، فذكروا كثيراً من وجوه إعجاز القرآن العظيم. ()

ومع هذا فليس لأحد أن يقصر وجوه إعجاز القرآن الكريم على ماذكره السابقون، بل لا بد أن نعلم علماً يقينياً أن القرآن وإعجازه لا يقف عند حدٍّ معين ((فعلى الرغم من كثرة ما كُتب عن الإعجاز القرآني في القديم والحديث على السواء، فإنه ما يزال قطرة من بحر ما ينبغي أن يُكتب للكشف عن هذه الجوانب التي لا تبلى على كثرة التردد، إذ كلما أمعن الباحثون النظر فيه، وأخلصوا النية له، وامتلكوا وسائل البحث الجاد من علم بالتراث، وفقه في اللغة، وبصر بالأساليب، وذوق أدبي مرهف، صقلته القراءة الواعية المتنوعة تكشف لهم عن عطاء سخي لا ينفد، ومعانٍ جديدة تُؤكد إعجازه)). ()

وسيبقى القرآن الكريم كتاباً مفتوحاً، ونبعاً فياضاً يفيض بالأسرار، والأمور العِظام، التي تشير إلى عظمة هذا الكتاب وإعجازه، وليس لأحد كائن من كان أن يُوصد الباب أمام الباحثين والدارسين، وليس لنا أبداً أن نرد من يقول في القرآن شيئاً محاولاً إظهار إعجازه، ولكننا نقول له: ? قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين? [البقرة: 111]، وبهذا البرهان فلا بأس، ولا حرج، إذ إن القرآن كتاب للأجيال كلها، ولا بد لكل جيل أن ينهل منه، وأن يقول كلمته فيه.

الحواشي والتعليقات:

(1) أخرجه البخاري في كتاب: تفسير القرآن، سورة الطور: 3/ 297.

(2) يُنظر القصة كاملة في السيرة النبوية:1/ 328، لأبي محمد بن عبدالملك بن هشام.

(3) التصوير الفني في القرآن: 14، سيد قطب.

(4): التحرير والتنوير: 24/ 277، للشيخ محمد بن طاهر بن عاشور.

(5) بيان إعجاز القرآن: 71، لأبي سليمان حمد بن محمد الخطابي، تحقيق، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن.

(6) المصدر السابق: 21.

(7) للاستزادة في هذا، وللوقوف على أبرز ما قيل في سبب إعجاز القرآن، انظر: ثلاث رسائل في إعجار القرآن، دلائل الإعجاز، إعجاز القرآن للباقلاني، الطراز للعلوي، معترك الأقران في إعجاز القرآن للسيوطي، إعجاز القرآن للرافعي، النبأ العظيم للدكتور محمد عبدالله دراز، التصوير الفني في القرآن لسيد قطب، الإعجاز البياني للقرآن للدكتورة عائشة بنت الشاطئ، إعجاز القرآن البياني بين النظرية والتطبيق للدكتور حفني محمد شرف، البيان في إعجاز القرآن للدكتور صلاح عبدالفتاح الخالدي، دراسات حول الإعجاز البياني في القرآن للدكتور المحمدي عبدالعزيز الحناوي، الإعجاز القرآني وجوهه وأسراره للدكتور عبدالغني محمد سعد بركة، مباحث في إعجاز القرآن للدكتور مصطفى مسلم، وغيرها.

(8) من بدائع النظم القرآني:6، د. السيد عبدالفتاح حجاب.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير