وأعلن ليون روشي، وهو باحث فرنسي مسلم، في كتابه: "ثلاثون عامًا في الإسلام": "أن هذا الدين الذي يعيبه الكثيرون إنما هو أفضل دين عرفته. فهو دين فطري، اقتصادي، أدبي. ولقد وجدت فيه حل المسألتين (الاجتماعية والاقتصادية) اللتين تشغلان بال العالم طرًا: الأولى في قوله تعالى:] إنما المؤمنون إخوة [الحجرات 10، فهي أجمل مبادئ التعاون الاجتماعي، والثانية في فريضة الزكاة في مال كل ذي نصاب، بحيث يكون للدولة أن تستوفيها جبرًا إذا امتنع الأغنياء عن أدائها طوعًا" (الاقتصاد الإسلامي لأحمد جمال، ص 36).
ولقد لخص غارودي سبب إسلامه بأنه وجد في الإسلام إجابة عن الأسئلة التي كان يطرحها دائمًا على نفسه، فراقه:
1 – احترام الإسلام للديانات السماوية السابقة، وتوقيره لأنبيائها ورسلها؛
2 – وإخضاع الإسلام العلومَ والفنون والتقنيات للمبادئ الدينية الإنسانية السامية، وجعلُها وسائل لسمو الإنسان وارتقائه، لا لانحطاطه وتدميره؛
3 – وشمول الإسلام لكافة جوانب الحياة (مستقبل الإسلام في الغرب، ص 7)
ونحن في هذا البحث، نتأسى بالمجيزين للتفسير العلمي مع مراعاة الشروط، بالبعد عن التكلف والتعسف والإطالة والاستطراد. فالإغراق في التفسير العلمي وحشوه بتفصيلات العلوم لا ريب أنه يخرجنا من نطاق التفسير، ويشغل القراء عن مقاصد القرآن، وربما يصدهم عن التفسير نفسه.
عن أبي جُحيفة قال: قلت لعلي رضي الله عنه: هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم (صحيح البخاري 1/ 38). وقال ابن عباس، ترجمان القرآن: تفسير القرآن على أربعة أوجه:
- تفسير لا يقع جهله؛
- تفسير تعرفه العرب بألسنتها؛
- تفسير يعلمه العلماء؛
- تفسير لا يعلمه إلا الله تعالى (تفسير أبي حيان 3/ 28).
وتفسير العلماء يختلف باختلاف علومهم، فمن كان عالمًا بالنحو كان تفسيره معنيًا بالنحو، ومن كان عالمًا بالصرف، كان تفسيره معنيًا به، ومن كان عالمًا بالبلاغة أو الفقه فكذلك. ومن كان عالمًا بالنفس أو الاجتماع أو الاقتصاد فإن كلاً منهم يكون أبرع من الآخر في التقاط المعاني المتصلة بعلمه.
سُئل أحد العلماء (لعله ابن باديس): ما خير تفسير للقرآن؟ فأجاب: الدهر، يعني: العلوم والمعارف والأفكار والحوادث والتجارب (مناهل العرفان 2/ 104).
وليس هناك خطر على القرآن نفسه من التفسير العلمي، فالقرآن محفوظ بحفظ الله، أما التفسير فهو اجتهاد بشري يصيب ويخطىء، ولا يخلو تفسير قديم أو حديث من عيب، وإننا لمحتاجون في كل عصر إلى تفسير جديد، فإن تطور العلوم والمعارف يجعلنا ندرك من القرآن ما لم يدركه السابقون، والمفسر إنما يفسر في حدود علمه في كل عصر. ولا يبعد أن كل تفسير سابق قد لاقى مقاومة في وقته. وإذا أسرف بعض المفسرين في الإعجاز العلمي، فهذا لا يقتضي محاربة الإعجاز العلمي كله، بل يقتضي فقط محاربة الإسراف فيه والشطط. ومن اشتغل بمقاومة هذا الإعجاز العلمي، فقد انشغل عن شرف الإسهام فيه وتقويته وتهذيبه وتشذيبه.
إن كل ما نكتبه في التنمية والعمران والاقتصاد الإسلامي إنما هو في نهاية المطاف شرح للسنة وتفسير للقرآن، فمن أنكر الإعجاز الاقتصادي فعليه أن ينكر الاقتصاد الإسلامي من أصله. ومن أنكر الإعجاز العلمي فعليه أن ينكر التفسير بالرأي، وأن يقتصر على التفسير بالمأثور، ومن بالغ فأنكر الإعجاز العلمي فعليه ألا يبالغ فينكر التفسير العلمي أيضًا. وقد تدبرت القرآن فوجدته كتاب تنمية شاملة، تنمية إنسانية وإدارية واقتصادية واجتماعية ودينية وخلقية ... ألم يكن القرآن هو أصل نهضة المسلمين، في جميع الميادين؟ وإذا قيل إن القرآن كتاب هداية، فهذا لا يتضارب مع ما قلناه، لأنه سيهدينا بكل تأكيد إلى التنمية والنهضة والتقدم.
ومن المستحسن ألا يفسر المفسر جميع القرآن، فهناك من فعل ذلِك، واكتفى بالنقل، ولم يضف شيئًا، والأفضل أن يفسر كل عالم ما هو داخل في اختصاصه، وكلما ازداد المفسر علمًا ولغةً ازداد إدراكه لما في القرآن من إعجاز. قال تعالى:] سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق [فصلت 52، وقال أيضًا:] وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون [العنكبوت 48، وقال أيضًا:] قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون [الأنعام 97،] لقوم يفقهون [الأنعام 98.
في جلسات الحوار القادمة، سندخل بإذن الله في التفسير العلمي الاقتصادي، ولعل النماذج المختارة من علم الاقتصاد تعدّ من باب الحقائق والقوانين الاقتصادية، التي إذا ما فسرت بها الآيات المختارة وصلنا إلى الإعجاز الاقتصادي، ولم نقف عند حد التفسير الاقتصادي. فيجب ألا نخلط بين التفسير والإعجاز، فمرتبة الإعجاز أعلى من مرتبة التفسير.
الأربعاء د. رفيق يونس المصري