ومما تقدم تبين أن كثيراً من العلماء الذين نفوا الترادف نرى أن نفيهم منصب عليه في اللغة، وأما نفيه في القرآن فهو من باب أولى وألزم؛ وذلك لِمَا تميز به أسلوب القرآن في تخيُّره لألفاظه التي تؤدي المعنى المراد دون سواها من الألفاظ، وإنْ كانت قريبة من معناها حتى يُظن أنها مرادفة لها.
وأول ما يُقرِّرُ هذه المسألة ما جاء في القرآن صريحاً من التفريق بين الألفاظ من حيث استخدامها في المواضع المختلفة؛ وذلك لِمَا بين كل لفظة وأخرى من دلالة ومعنى تتميز به دون غيرها ((فالقرآن لا يكتفي بانتقاء الألفاظ وتخيُّرِها، بل يشرع في ذلك صراحة، يُنبِّه إلى خطأ وضع استعمال اللفظ في غير موضعه، ويُرشد إلى بديله)) (14)، يتضح هذا الأمر جلياً في قوله - تعالى -: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ... ) [الحجرات: 14]، فهكذا نراه يفرق بين لفظة وأخرى، يفرق بين الإيمان والإسلام؛ وذلك أن كل كلمة منهما لها دلالة ما ليس في الأخرى. (15)
وقد تضمن هذا التوجيه الرباني دعوة صريحة إلى النظر في دلالات الألفاظ، ومراعاة استخدامها في المقام المناسب لها، وقد تمثَّل العلماء هذا الأمر، وساروا على هذا المنهج، فرأينا كثيراً منهم يفرد في مصنفاته فصولاً في ذكر الألفاظ التي يُظن أنها أن بينها ترادفاً مبيناً الفروق المعنوية فيما بينها.
ومن أولئك العلماء:
1 - الزركشي فقد ذكر في كتابه " البرهان" فصلاً بعنوان: ألفاظ يُظن بها الترادف وليست منه.
2 - السيوطي في "معترك الأقران" ذكر فصلاً بعنوان: ألفاظ يُظن بها الترادف وليست منه.
3 - د. محمد الشايع في كتابه "الفروق اللغوية وأثرها في تفسير القرآن الكريم" ذكر فصلاً بعنوان: دراسة أمثلة من القرآن ظاهرها الترادف، وغيرهم.
ولا نعجب إذا ذهبوا إلى نفي الترادف في القرآن الكريم، فأنى للترادف أن يكون في القرآن ((ونحن نعلم أن لكل نوع من المعنى نوعاً من اللفظ هو به أخص أولى، وضرباً من العبارة هو بتأديته أقوم، وهو فيه أجلى)) (16) لا يشاركه فيه غيره من الألفاظ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: مادة: ردف: معجم مقاييس اللغة.
(2) انظر: مادة: ردف: القاموس المحيط.
(3) انظر: مادة: ردف: لسان العرب.
(4) الصاحبي:114.
(5) فصول في اللغة العربية: 309.
(6) ومنهم: الرماني، ابن السكيت، ابن خالويه، أبو على الفارسي، ابن سيدة، ابن جني، الفيروز أبادي وغيرهم.
(7) الفروق اللغوية: 13.
(8) انظر: المزهر في علوم اللغة وأنواعها: 1/ 404.
(9) ومن هؤلاء: الجاحظ، والمبرد، وثعلب، وابن فارس، وابن الأعرابي، والأنباري، وابن درستويه، والراغب الأصفهاني، وأبو هلال العسكري، وغيرهم.
(10) الصاحبي: 114.
(11) الأضداد: 7.
(12) انظر: المزهر: 1/ 384.
(13) الفروق: 11.
(14) خصائص التعبير القرآني وسماته البلاغية: 1/ 252.
(15) وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فروقاً بينهما، انظر: الفتاوى: 7/ 6.
(16) الرسالة الشافية: 117.
ـ[ابن القاضي]ــــــــ[15 - 08 - 2008, 07:41 م]ـ
أستاذ عبد العزيز العمار؛ أشكرك على هذا الموضوع الرائع المفيد؛ جعله الله في ميزان حسناتك.
ونحن بانتظار المزيد.
ـ[ندى الرميح]ــــــــ[16 - 08 - 2008, 03:42 ص]ـ
ولا نعجب إذا ذهبوا إلى نفي الترادف في القرآن الكريم، فأنى للترادف أن يكون في القرآن ((ونحن نعلم أن لكل نوع من المعنى نوعاً من اللفظ هو به أخص أولى، وضرباً من العبارة هو بتأديته أقوم، وهو فيه أجلى)) (16) لا يشاركه فيه غيره من الألفاظ.
نعم ... أنى للترادف أن يكون في القرآن؟!
وما أحسن ما قاله الدكتور دراز في اصطفاء القرآن لألفاظه:
" الجديد في لغة القرآن: أنه في كل شأن يتناوله من شؤون القول، يتخيّر له أشرف المواد، وأمسّها رحمًا بالمعنى المراد، وأجمعها للشوارد، وأقبلها للامتزاج، ويضع كل مثقال ذرّة في موضعها الذي هو أحق بها وهي أحق به، بحيث لا يجد المعنى في لفظه إلا مرآته الناصعة، وصورته الكاملة، ولا يجد اللفظ في معناه إلا وطنه الأمين، وقراره المكين " (النبأ العظيم).
جزاك الله خيرًا على التناول الحصيف للموضوع، ونأمل بالمزيد.
¥