تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالعقل واللب متباينان بالمفهوم الأول، مترادفان بالمفهوم الثاني، وهذا ما توصل إليه المحدثون في الدراسات اللغوية الحديثة حين ذكروا أن اللفظ يحمل نوعين من الدلالة: الأولى مركزية وهي القدر المشترك من الدلالة التي تصل بالناس إلى نوع من الفهم التقريبي في تعاملهم مع بعضهم في حياتهم العامة، والثانية هامشية وهي الظلال التي تختلف باختلاف الأفراد وتجاربهم وأمزجتهم وتركيب أجسامهم وما ورثوه عن آبائهم وأجدادهم، فبينما تجمع الدلالة المركزية بين الناس، تفرق بينهم الدلالة الهامشية، كما يرون أن الآداب لم تكتسب روعتها إلا من الدلالة الهامشية والتي خلقت عملاً يعرف بالنقد الأدبي الذي عرض فيه ما يعرف بالذوق العام والذوق الخاص الذي يتأثر إلى حد كبير بالدلالة الهامشية، والتي تختلف باختلاف الناس وتجاربهم وأمزجتهم وعواطفهم وبيئاتهم، وهي ما لم تعرض لها المعاجم أو تعنى بها.

وخلاصة القول في هذه القضية أنه إذا أريد بالترادف التطابق التام الذي يسمح بالتبادل بين اللفظين في جميع السياقات، دون أن يوجد فرق بين اللفظين في جميع أشكال المعنى الأساسي والإضافي والأسلوبي والنفسي والإيحائي، فالترادف غير موجود على الإطلاق.

أما إن أريد به التطابق في المعنى الأساسي دون سائر المعاني أو بإمكانية التبادل في بعض السياقات فالترادف موجود لا محالة.

وأما في القرآن الكريم فقد تباينت آراء العلماء بين إثبات الترادف وإنكاره.

أما مثبتوه فقد جاء إثباتهم له عرضاً في ثنايا حديثهم عن الأحرف السبعة، والتوكيد في القرآن، وعلم المتشابه، وعلم التفسير.

وأما المنكرون فقد تباينت اتجاهاتهم، فمنهم من أقره لغة وأنكره فصاحة وعذوبة، وكان منهم من تحرج من الترادف في بعض ألفاظه، وآثر القطع بعدم الترادف ما أمكن، وكان منهم من أنكره في العربية عامة والقرآن خاصة.

غير أن الرأي الأسلم في هذه الظاهرة هو إنكار الترادف في القرآن الكريم وهذا ما توصلت إليه الدراسات اللغوية الحديثة في ضوء التعريف المتفق عليه للترادف.

فقد اصطلح على تعريفه بأنه: دلالة لفظين مفردين فأكثر دلالة حقيقية مستقلة على معنى واحد، باعتبار واحد، وفي بيئة لغوية واحدة.

وفي ضوء التعريف السابق، وجد العلماء أن ألفاظ القرآن الكريم تأبى هذا التعريف، ولا تنقاد لشروطه، فقد لاحظوا فروقاً دلالية بين كثير من ألفاظ القرآن الكريم كما في الألفاظ الآتية: آثر وفضَّل ـ حلف وأقسم ـ آنس وأبصر ـ بخيل وشحيح، إضافة إلى أنه من قبيل الفروق الدلالية اتساع دلالة بعض الألفاظ لتشمل ألفاظاً أخرى، وقد وجد ذلك في بعض الألفاظ نحو: آتى وأعطى ـ أجر وثواب ـ رقيم وكتاب ... ، كما أن اختلاف الاعتبار واللغات، ودلالة بعض الألفاظ على معانٍ مجازية سبب في إخراج ثلة من الألفاظ القرآنية من دائرة الترادف.

وقد تنبَّه الجاحظ إلى هذه الظاهرة اللغوية الفريدة في القرآن الكريم، فأيقن أنه لا ترادف في القرآن الكريم، حيث توصل إلى ذلك بعد دراسته للمفردات القرآنية في سياقاتها المتعددة.

وهذا ما يبدو جلياً في قوله: [وقد يستخف الناس ألفاظاً ويستعملونها، وغيرها أحق بذلك منها، ألا ترى أن الله تبارك وتعالى لم يذكر في القرآن الجوع إلا في موضع العقاب، أو في موضع الفقر المدقع، والعجز الظاهر، والناس لا يذكرون السغب ويذكرون الجوع في حالة القدرة والسلامة، وكذلك ذكر المطر لأنك لا تجد القرآن يلفظ ذكر المطر إلا في موضع الانتقام، والعامة وأكثر الخاصة لا يفصلون بين ذكر المطر وذكر الغيث] (1).

فالجاحظ في نصه ينتقد عامة الناس وخاصتهم في استعمالهم الألفاظ في مواضع لا تصلح لها، وينبههم إلى دقة القرآن في استعمال الألفاظ في سياقها المناسب لها.

لقد وضع الجاحظ الخطوة الأولى للتفريق بين الألفاظ في الاستعمال قاده إلى ذلك حسه اللغوي، وفتح الباب لمن جاء بعده من العلماء.

فأبو هلال يفرق بين الانكار و الجحد، وابن قتيبة يفرق بين الكلام والقول، وكلها ألفاظ واردة في القرآن الكريم، والراغب الأصفهاني يضع كتابه"مفردات ألفاظ القرآن حيث تتبع فيه الدلالات الدقيقة للألفاظ فتوصل إلى أن للفظ القرآن الذي أتى عليه خصوصية في الاستعمال وميزة لا تكون لمرادفه.

أما الخطابي فقد أفرد فصلاً كاملاً، أورد فيه بعض الألفاظ التي يحسب أكثر الناس أنها متشابهة في بيان مراد الخطاب، و رأى أن لكل منها خاصية تتميز بها عن صاحبتها في بعض معانيها، و إن كانا قد يشتركان في بعضها، كالعلم و المعرفة، و الحمد و الشكر، و القعود والجلوس، و نحوها.

ولم تتوقف القضية على المتقدمين، فقد شاركهم المتأخرون في ذلك، ولعل من أبرز من ناقش هذه القضية مناقشة مستفيضة الدكتورة "عائشة عبد الرحمن" حيث انتهت بعد استقرائها لألفاظ القرآن في سياقاتها إلى أن القرآن [يستعمل اللفظة بدلالة معينة، لا يمكن أن يؤديها لفظ آخر في المعنى الذي تحشد له المعاجم وكتب التفسير عدداً قلَّ أو كثر من الألفاظ]. (2)

فالقرآن الكريم ينتقي ألفاظه، ويضعها في مواضعها اللائقة بها، فلا يؤدي غيرها مؤداها، لأنها مقصودة لذاتها لفظاً ومعنىً (3).


(1) انظر: البيان والتبيين:1/ 26.
(2) انظر: الإعجاز البياني للقرآن ومسائل ابن الأزرق: ص/ 214 و 215.
(3) جزء من رسالة علمية للدكتورة أم عبدالرحمن.
¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير