إن قضية وقوع الترادف في اللغة قد شغلت علماء العربية، وانقسموا إزاءها إلى فريقين، فهم بين مقرًّ بها جامعٍ لألفاظها، ومنكرٍ لها يحاول التماس الفروق بين الألفاظ.
وما من شك في أن الإقرار كان سابقاً للإنكار، فلولا الإقرار لما كان إنكار المنكرين، ويؤيد ذلك أمور:-
1 - أن الترادف كان ماثلاً في أذهان العرب وأشعارهم، ومن أشعارهم قول الحطيئة:
ألا حبذا هندٌ وأرضٌ بها هندٌ وهندٌ أتى من دونها النأي والبعد
فهذا البيت قد تناقله اللغويون والنقاد شاهداً على أن الشاعر يأتي بالاسمين المختلفين للمعنى الواحد تأكيداً ومبالغة.
2 - ما تناقله الرواة الأوائل من ألفاظ جمعوها من أفواه العرب، وأثبتوها في رسائل لغوية كانت نواة المعاجم الضخمة بعد ذلك.
3 - التكثُّر والمفاخرة لدى بعض اللغويين كالأصمعي، وابن خالويه في حفظ مئات الأسماء بل ألوفها للشيء الواحد، مما نشأ عنه احتدام نار النزاع بين هذا الفريق من المثبتين، وفريق آخر هاله ذلك التكثر وتلك المبالغة، فشرع في إنكار الترادف، وأخذ يلتمس لرأيه الأدلة العقلية والنقلية للتدليل على أن مترادفات الفريق المثبِت إنما هي من الألفاظ المتباينة في أصل الوضع.
وسوف أعرض في هذه السطور آراء المنكرين أولاً، لأنهم هم الذين جعلوا من الترادف قضية للطرح والمناقشة، ثم أعقب بآراء المثبتين.
فقد كان ابن الأعرابي أول من أنكر الترادف، وتبعه في مذهبه تلميذه ثعلب، وأبو بكر محمد بن القاسم الأنباري، وابن فارس، وأبو هلال العسكري.
غير أنَّ النَّاظر لأول وهلة في مؤلفاتهم يلحظ الاضطراب الواضح بين الإنكار النظري لمبدأ الترادف، والإقرار الفعلي في كثير من الألفاظ والمواقف.
وإذا ما انتقلنا إلى المثبتين، فإننا نجد معظمهم يروون الألفاظ المترادفة، ولا نكاد نعثر لأغلبهم على رأي صريح فيها، ومن هؤلاء أبو زيد الأنصاري، وأبو علي الفارسي، وابن الأثير، وابن جني الذي جعل الترادف ميزة للعربية تشرف بها.
إلا أن من هؤلاء المثبتين من يحاول البحث في علل تسمية بعض الألفاظ على منهج المنكرين، كما كان عند أبي علي وتلميذه ابن جني.
ولعل الاختلاف الكبير، والاضطراب الذي قد يبدو ظاهراً في هذه المسألة إنما يرجع إلى سببين:
الأول: غموض المصطلح في أذهان اللغويين، وعدم اتفاقهم على مفهوم محدد للترادف.
الثاني: اختلاف المنهج الذي اعتمده كل فريق في الحكم على ظاهرة الترادف، فالفريق الأول ينكر أصالة الترادف في أصل اللغة، والفريق الثاني يقره في الواقع اللغوي، ولا تناقض بين الرأيين، فالمنكرون يذكرون كثيراً من الألفاظ المترادفة في استعمال الناس على منهج المثبتين، والمثبتون يبحثون عن علل تسمية بعض الألفاظ على منهج المنكرين.
والمنكرون يلتمسون الدقة الدلالية في الألفاظ، فيبحثون عن التطابق الكلي بين دلالة اللفظين على المعنى العام والمعاني الجزئية المتفرعة عنه، فهم لم يمنعوا دلالة اللفظين على معنى عام، واكتفى المثبتون بدلالة اللفظين على المعنى العام المتداول بين الناس، ولا تعارض بين الاتجاهين.
وبهذا لا يظهر خلاف بين الفريقين في كثير من المسائل التي ذكروها، إنما الخلاف الحقيقي يبدو في أمرين هما:
الأول: أن المثبتين يرون أن الترادف من الحكمة الإلهية في الوضع، على حين يرى المنكرون أنه منافٍ للحكمة الإلهية في وضع الألفاظ لخلوه من الفائدة.
الثاني: أن المثبتين أكتفوا بالواقع اللغوي شهادة على مذهبهم، على حين حاكم المنكرون الترادف بمقياس العقل والمنطق فلم يجدوا لوقوعه مسوغاً.
وبذلك يبدو أن المنكرين بنظرتهم الدقيقة المتفحصة ينكرون الترادف الكامل بين اللفظين بما يحملانه من معنىً عام، ومعانٍ فرعية خاصة، أما أن يجتمع اللفظان على معنىً عام يحمل الفكرة العامة دون تدقيق أو تمحيص فلا ينكرون ذلك، فهم يفرقون بين مستويين في استخدام اللغة، مستوى الدقة الدلالية، ومستوى التخاطب العام.
¥