تنزيه فثناء، كما تقدم فيما سبق، وزيد في هذا الذكر، لازم الربوبية، فإنها مقصودة لغيرها من جهة أن من علم أن ربه، جل وعلا، متصف بالكمال مطلقا منزه عن النقص مطلقا، فإنه لا يدعو سواه، فلا يغفر الذنب إلا هو، والدعاء عبادة، فصار توحيد الربوبية دليلا على توحيد الألوهية، وإن شئت فقل: صار توحيد الرب، جل وعلا، بأفعاله دليلا على توحيده بأفعال عباده، فكيف يُدْعَى سواه من ملك أو نبي أو إمام أو ولي، وليس لهم من الأمر شيء، فالأمر كله له، وفي التنزيل: (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)، فرجوع الأمر كله إليه على وجه القصر بتقديم ما حقه التأخير: "إليه" لازمه: "فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ"، فلازم تمام الربوبية تمام العبودية كما تقدم.
*****
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ".زيادة: "إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" فهي بمنزلة:
النص على علة طلب المغفرة من الله، عز وجل، دون من سواه، إذ هو التواب الرحيم، فلا يتوب على العصاة ولا يرحم العباد إلا هو، وقد أكد ذلك بـ: "إن"، واسمية الجملة، وتعريف جزأيها، فتقديرها قبل دخول "إن": أنت التواب الرحيم، ومن ثم دخلت "إن" على ضمير المخاطب فاتصل بها، فضلا عن التوكيد بـ: "أنت"، والاستغراق لجنس التوبة والرحمة في "التواب" و "الرحيم"، فالصيغة: صيغة مبالغة دخلت عليها "أل" التي تفيد استغراق معاني التوبة والرحمة.
وهي قائمة، أيضا، مقام "التذييل" فهي مؤكدة لمعنى ما قبلها، ففيها، بيان بعد بيان، والإطناب في هذه المواضع، كما تقدم، مقصد شريف.
*****
وفي حديث علي رضي الله عنه: (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَكَعَ قَالَ اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ أَنْتَ رَبِّي خَشَعَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي وَعَصَبِي وَمَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ قَدَمِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، وهو من أجمعها لفظا ومعنى:
لك ركعت: قصر بتقديم ما حقه التأخير، فلك وحدك ركعت، ولا مانع من الجمع بين الحقيقتين اللغوية والشرعية في هذا الموضع، فلك خضعت، وهي الحقيقة اللغوية للركوع، ولك ركعت، الركوع الشرعي المعهود، فلو قيل بأن الحقيقة الشرعية مجاز لغوي، لكان ذلك دليلا على صحة القول بعموم المجاز لمعنييه: الوضعي والاصطلاحي، وهو ما ارتضاه بعض أهل العلم كأكثر فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة، رحم الله الجميع، كما أشار إلى ذلك ابن تيمية، رحمه الله، في "رسالة أصول التفسير".
وَبِكَ آمَنْتُ: قصر كسابقه بتقديم ما حقه التأخير.
وَلَكَ أَسْلَمْتُ: قصر ثالث، قد يراد به الإسلام اللازم، فيكون المعنى: ولك استسلمت، حملا على قوله تعالى: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)، وقد يراد به الإسلام المتعدي، فيكون المعنى: ولك أخلصت وجهي، حملا على قوله تعالى: (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ)، وقد يقال بأن حذف المعمول هنا مؤذن بعموم الإخلاص، فلك أخلصت وجهي وعملي وكل أمري.
ولا مانع هنا، أيضا، من الجمع بين المعنيين، لاحتمال السياق كليهما بلا تكلف.
وقد يقال بأن في "وجهي": مجاز، عند من يقول بالمجاز، إذ أطلق "الوجه" وأراد "النفس"، وخص الوجه بالذكر لأنه أشرف أجزاء البدن، فإذا سجد، سجد باقي البدن تبعا من باب أولى، ومن يمنع المجاز يقول بأن المعنى المراد متبادر إلى الذهن ابتداء دون تكلف المجاز وعلاقته.
أَنْتَ رَبِّي: حصر بتعريف الجزأين:
المبتدأ المعرف بالإضمار "أنت"، وفي استعمال ضمير المخاطب "أنت": استحضار لأعظم غائب، الله، عز وجل، فكأن الداعي يراه فيخاطبه مباشرة.
والخبر: "ربي": المعرف بالإضافة إلى ياء المتكلم.
خَشَعَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي وَعَصَبِي وَمَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ قَدَمِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: لازم الربوبية، فالخشوع: عبادة، وتوحيد العبادة لازم توحيد الربوبية، كما تقدم، فالربوبية: سبب، والخشوع: نتيجة.
سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي وَعَصَبِي: إطناب يناسب المقام، فهو مقام مناجاة الرب، جل وعلا، أشرف معلوم، وهو يشمل الظاهر: السمع والبصر، والباطن: المخ والعظم والعصب، فلك سجودي ظاهرا وباطنا.
وَمَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ قَدَمِي: عموم بعد خصوص، فـ "ما" الموصولة: نص في العموم، وهو، أيضا، من صور الإطناب، فسجد لك ما تقدم، بل وسجد لك كلي.
والله أعلى وأعلم.
¥