تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وقد أكد هذا المعنى وأظهره حرف الجر "على" – بدلالته على الاستعلاء – في قوله ? عليكم ?؛ وذلك أن فيه ((دليلاً على وجوب هيمنة هذا الحكم على الأمة المسلمة، وعدم التسامح فيه، والتهاون في تنفيذه)). (6)

جاء التشبيه في قوله ? كما كُتب على الذين من قبلكم ? تأكيداً للوجوب، ومتمماً له، وبيان ذلك: أن فيه الإشارة إلى أن الصيام فريضة قديمة، كتبها الله على الأنبياء والأمم من قبلنا جميعاً، وما أخلى الله أمة من الأمم السابقة من إيجابه عليهم، ولم يكن فرض الصيام على هذه الأمة وحدها (7)، وفي هذا إشارة إلى أن الأمة الإسلامية امتداد للأمم المؤمنة التي سبقتها، فهي تسير على خطاها، وتقتفي أثرها، وتلتزم بما التزمت به، ولهذا فهاهو الصوم يُفرض عليها كما فُرض على الذين من قبلها، وهذه الأمة خير الأمم فلا غرو أن يُفرض عليها، ولا غرو أن تقوم به خير قيام.

وإن كان المعنى الذي وقع عليه التشبيه هو: مدة الصيام فقط دون غيره، كما يذكر ذلك الطبري، ويرجحه على غيره، فقد ذكر في تفسيره ((أن التشبيه إنما وقع على الوقت؛ وذلك أن من كان قبلنا إنما فُرض عليه صوم شهر رمضان مثل الذي فُرض علينا سواء)). (8)

وقد دلَّ التشبيه على أهمية الصيام، ففيه الإشارة إلى عِظم الصيام، وما تضمنه من الحِكَم والمصالح، تشهد بذلك العقول السليمة، والفطر المستقيمة، ولذا شرعه الله، وفرضه عليهم؛ رحمة بهم وإحساناً (9)، وفي ذلك دلالة على أن الصوم ركن ركين في كل دين، فهو من أقوى العبادات، كما أنه وسيلة مهمة في تهذيب النفس وإصلاحها، ولذا فرضه الله علينا، وعلى الأمم السابقة، كما أن فيه إشارة إلى وحدة الدين في مصدره، وفي أصوله ومقاصده، وفي هذا تأكيد لفرضية الصيام، وترغيب فيه. (10)

وقد أشار الطاهر بن عاشور إلى أغراض التشبيه في قوله ? كما كُتب على الذين من قبلكم ? وبيّن مقاصده وحِكمه، وذكر ((أغراضاً ثلاثة تضمنها التشبيه:

أحدها: الاهتمام بهذه العبادة، والتنويه بها، فقد شرعها الله قبل الإسلام لمن كانوا قبل الإسلام، وشرعها للمسلمين؛ وذلك يقتضي اطراد صلاحها، ووفرة ثوابها، وإنهاض همم المسلمين لتلقي هذه العبادة؛ كي لا يتميز بها من كان قبلهم.

الغرض الثاني: أن في التشبيه بالسابقين تهويناً على المكلفين بهذه العبادة أن يستثقلوا هذا الصوم.

الغرض الثالث: إثارة العزائم؛ للقيام بهذه الفريضة؛ حتى لا يكونوا مقصرين في قبول هذا الفرض؛ بل ليأخذوه بقوة تفوق ما أدى به الأمم السابقة)). (11)

وسيظل في هذا التشبيه ? كما كُتب على الذين من قبلكم ? مزيداً لمن يتأمله، وينعم النظر فيه، كما أن فيه إشارة مهمة في هذا السياق ستأتي الإشارة إليها في موضع آخر من آيات الصيام أتركها لذلك المقام؛ لأنها به ألصق وأعلق.

ثم بيّن – سبحانه – في خاتمة الآية الغاية من فرضية الصيام في قوله ? لعلكم تتقون ? و" لعل" هنا للترجي، وهو ترجٍ في حق العباد، فموضعه هنا المخاطبون لا المتكلم، فهم المأمورون بالصيام، وهم الذين يترقبون بصيامهم منزلة التقوى. (12)

كما أنه يُهوِّن لذائذ الدنيا ويصغرها في عين الصائم؛ لكونه يحدُّ من شهوة البطن والفرج، فمن هان عليه هذان الأمران خفت عليه مؤنتهما، فكان ذلك رادعاً له عن ارتكاب المحرمات والفواحش، وكان ذلك سبباً في امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، وتلك هي التقوى، وهي الغاية من فرضية الصيام. (13)

حُذف متعلق " تتقون " في قوله ? لعلكم تتقون ? فلم تُذكر الأمور التي يتقيها المسلمون بصيامهم، وثمة سرٌّ لطيف وراء هذا الحذف، وهو إرادة العموم، فالمراد بذلك: أن يتقوا كل شيء من شأنه أن يقربهم من سخط مولاهم عليهم، وهي كثيرة لا حصر لها، ولو ذُكر متعلق " تتقون " لانحصر الذهن في المذكور، وهذا لا يصح، ولذا فإن الغرض من هذا الحذف هو: أن تذهب النفس في تقديره كل مذهب، لكي تحذر كل المحظورات وتتجنبها، وتبتعد عنها كل البعد، ولا تواقعها، وتلك هي التقوى الذي جُعل الصوم سبباً موصلاً إليها.

إذن فالغرض من الصيام تحقيق التقوى بنص القرآن الكريم، فالمسلم من خلال صيامه يجعل بينه وبين سخط الله وعذابه وقاية؛ لِما فيه من قهر النفس، وقمع الهوى، ولذا فهو من أكبر الأسباب الرادعة عن مواقعة السوء، والوقوع في الفحشاء. (14)

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير