ولا أظنّ أنك ستجد ذلك أبداً، لأن يوسف علي يتقن الإنجليزية أكثر بكثير مني ومنك ومن رشاد خليفة. وجميع المترجمين إنما أرادوا أداء المعنى وليس أداء الحروف والألفاظ!
وما أسهل التنظير من غير براهين!
بل أكاد أقول: إن جميع المترجمين للقرآن أكثر إتقاناً للإنجليزية من رشاد خليفة!
وربما أكثر إخلاصاً أيضاً!
وأما على أرض الواقع فإن ترجمة يوسف علي - وجميع الترجمات الأخرى فيما أظن - لا توصف بأنها حرفية، لأن أصحابها إنما أرادوا نقل المعنى وليس نقل الألفاظ.
وقول الأخ عن ترجمة مجمع الملك فهد (تظنّ معها أنها مكتوبة للناطقين بالعربية!) لا أراه دقيقاً. بل لعلها من أبعد الترجمات عن الحرفية لأن غرضها كان ترجمة المعاني، ولذلك تكثر التعليقات الإيضاحية في متنها.
وأما (التراكيب الإنجليزية القديمة التي تُعَدّ الآن عائقاً أمام القارئ المعاصر) فهي تعطي النص جلالة ومهابة، ويعرفها أصحاب تلك اللغة بسهولة، وإن كانت صعبة قليلاً على العربي الذي يتعلم الإنجليزية لغة ثانية. والقوم يقرأون ترجمة الملك جيمس، ويدرسون شعر شكسبير في المدارس الثانوية.
فالأمر ليس بهذه الصورة القاتمة! ولا يجوز أن يُجعل أساساً لامتياز ترجمة على أخرى.
وطبعاً لم يقصد رشاد خليفة إلى تقريب القرآن إلى ناشئة القوم!
والأمثلة التي ذكرتُها تُظهِر ما أشير إليه: ففي ترجمة الآية 21 مثلاً ترجم يوسف علي قوله تعالى {أذقنا} حرفياً إلى make taste يعني: يُذيق (مِن التذوُّق). وترجم {مسَّتهم} إلى touched يعني: لَمَسَ (مِن اللَّمس). وهما عند خليفة bestow يعني: يَهَب ويَمنح، و afflicted يعني: ابتلى وأصاب، على التوالي. وترجم يوسف علي قوله تعالى {ما تمكرون} إلى all the plots that ye make وعند خليفة everything you scheme وهي أكثر تماسكاً.
وفي الآية 24 ترجم يوسف علي قوله تعالى {مَثَل} إلى likeness يعني: شَبَه. وعند خليفة analogy يعني: الثمثيل والتشبيه. وترجم يوسف علي قوله {الحياة الدنيا} إلى the life of the present يعني: حياة الحاضِر، وعند خليفة the worldly life يعني: الحياة الدنيوية، وهي الصيغة الأوقع والأكثر انتشاراً. وترجم يوسف علي قوله سبحانه {وظنَّ أهلها أنهم قادرون عليها} إلى: the people to whom it belongs think they have all powers of disposal over it يعني: يظنّ الناس الذين تنتمي إليهم أنّ لديهم كل سُلطات التصرُّف فيها. وعند خليفة: its people think that they are in control thereof يعني: يظنّ أهلها أنهم متحكّمون فيها. وترجم يوسف علي قوله {أمرُنا} إلى command بمعنى إصدار الأمر، وعند خليفة: judgment يعني: القضاء
غير صحيح، بارك الله فيك!
فهذه ليست أمثلة على الترجمة الحرفية الفاسدة! بل هي غالباً أمثلة على الترجمة الحرفية الصحيحة!
لأن أفعال الذوق واللمس تستعمل في الإنجليزية بنفس المعاني المجازية الواردة في تلك الآيات، كقولهم مثلاً ( human touch) و ( literary taste). ولو قالت الأم لطفلها (ذق نتيجة تصرفاتك) لفهم المعنى فوراً، في اللغتين.
والفعل (ينبغي) - الذي تجاهله رشاد خليفة - موجود في اللغتين.
فمن الواجب على المترجم أن يستعمل نفس الأفعال ما دامت مشتركة بين اللغتين، وإلا فقد خان الأمانة التي هي أهم شروط الترجمة الصحيحة، وجعل نفسه مصحِّحاً لعبارة النصّ الأصلي!
ولا يوجد مسوِّغ موضوعي لإعراض رشاد خليفة عن العبارات القرآنية إلى ( bestow و afflicted) وأمثالها، بل هي تصرفات لا لزوم لها!
وقد ترجم رشاد خليفة (أهلها) بقوله ( its people)، وهي قطعاً ترجمة حرفية! وكان يوسف علي يستطيع أن يقول ( its people)، وهي لفظة يعرفها طلبة الابتدائي! ولكنه أدرك أن الكلمة لا تؤدي المطلوب، فقال ( the people to whom it belongs)، وهي ترجمة بالمعنى!
وترجمة ( command) أصحّ من ( judgment)
وأما (تمكرون) فالترجمتان مقبولتان، وفيهما موضع للنظر والتحسين، وليست ترجمة رشاد خليفة هي أفضل ولا (أكثر تماسكاً).
وكذلك ( likeness) و ( analogy)، كلاهما مقبول. والأولى أفضل، لأن الثانية مصطلح منطقي غير مقصود في الآية.
¥