تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وليس الإرشاد إلى الخير النَّافع بأولى من التَّنبيه على الباطل الضارّ، بل كلاهما غرض حسن، وسَنن لا يعدل عنه السَّاعون في خير سنن (19)، ولا تثبت تحلية إلا عن سبق تخلية. (20)

لقد تأسَّست الجمعيّة في وقت اشتدَّت فيه وطأة الاستعمار الفرنسي على الشَّعب الجزائري، وكان قد مرَّ على احتلاله للجزائر قرنٌ كاملٌ، ذاق فيه الجزائريّون ألواناً من العذاب، ومع هذا كلِّه كان من حكمة الجمعيّة الإعراضُ عن هذا الاستعمار الماديّ - في أوَّل الأمر - الذي يعتمد على الحديد والنَّار، وتوجيه ضرباتها إلى الاستعمار الرُّوحيّ الذي يمثِّله مشايخ الطُّرق المؤثِّرون في الشَّعب، المتغلغلون في جميع أوساطه، المتَّجرون باسم الدِّين، المتعاونون مع الاستعمار الماديّ عن رِضى وطواعية، من أجل تجهيل الأمَّة لئلاَّ تفيق بالعلم، وتفقيرها لئلاَّ تستعين بالمال على التَّحرر، فكان من سداد الرأي وإحكام التدبير البدءُ بمحاربة الاستعمار الثَّاني؛ لأنّه أضرُّ خطراً وأهون دفاعاً. (21)

يقول ابن باديس: «وبعدُ، فإنَّنا اخترنا الخطَّة الدِّينيّة على غيرها عن علم وبصيرة وتمسُّكا بما هو مناسب لفطرتنا وتربيتنا من النُّصح والإرشاد وبثِّ الخير، والثَّبات على وجهٍ واحدٍ، والسير في خط مستقيم ... ولو أردنا أن ندخل الميدان السياسيّ لَدخلناه جهراً، ولَضربنا فيه المثل بما عُرف عنَّا من ثباتنا وتضحيتنا، ولَقُدْنا الأمَّة كلَّها للمطالبة بحقوقها، ولكان أسهلَ شيء علينا أن نسير بها على ما نرسمه لها، وأن نبلُغ من نفوسها إلى أقصى غايات التَّأثير عليها؛ فإنّ ممَّا نعلمه ولا يخفى على غيرنا أنّ القائد الذي يقول للأمَّة: إنَّك مظلومة في حقوقك وإنَّني أريد إيصالك إليها؛ يجد منها ما لا يجده من يقول لها: إنَّك ضالَّة عن أصول دِينك وإنَّني أريد هدايتك، فذلك تلبِّيه كلُّها، وهذا يقاومه معظمُها أو شطرُها، وهذا كلُّه نعلمه؛ ولكنَّنا اخترنا ما اخترنا لِما ذكرنا وبيَّنَّا، وإنَّنا – فيما اخترناه – بإذن الله لماضون وعليه متوكلون» (22).

وفي تقديم التَّصفية على التَّربية، والتَّخلية على التَّحلية يقول الإبراهيمي: «كان معقولاً جدًّا أنّ الإصلاح الدِّينيَّ لا يطمئنُّ به المضجع في هذه الدِّيار، ولا ترسخ جذوره إلا إذا مُهِّدت له الأرض ونُقِّيت. ولابدّ بعد وجود المقتضيات من إزالة الموانع. وموانع الإصلاح بهذه الدِّيار وعوائقُه هي طائفة أو طوائف، تختلف اسماً وصفةً، وتتَّحد رسماً وغايةً» (23).

ويذكر الإبراهيميّ أنّ الأوساط الإصلاحيّة تردَّدت في طريقة عملها بين رأيين:

الأول: توجيه الجهود إلى التَّعليم المثمر، وتكوين طائفة من المتعلِّمين مطبوعة بالطَّابع الإصلاحيّ علماً وعملاً، مسلَّحةٍ بالأدلّة، حتى إذا كثُر سوادها استُخدمت في الحرب على البدع وأهلها. وكان هو يميل في البداية إلى هذا الرأي.

الثاني: الهجوم على أهل الباطل والبدع، وإسماعُ العامَّة المغرورة بهم صوت الحقّ؛ لأنَّ البدع والمنكرات قد تغلغلت في الأمَّة وطال عليها الأمد، وشاب عليها الوالد وشبَّ الولد، فلا بدَّ من صيحة مُخيفة ورجَّة عنيفة تصدِّع بنيانها وتُزَلْزِل أركانَها، وتُضعف في النُّفوس هيبة أهل الباطل ورهبتهم.

قال: «وقد رجَح الرأيُ الثاني لمقتضياتٍ، لله من ورائها حكمة» (24).

ولقد عاب بعض الكُتّاب على الجمعيّة اشتغالَها بالردِّ على المنحرفين في العقيدة وصرفَ الجهود والأوقات في ذلك، على حساب غيره من مباحث العلم والتَّعليم والأخلاق والصَّنائع، مقلِّلا من أهميّة عملها هذا؛ ولأمثال هؤلاء يقول الإبراهيمي: «وقد يظنُّ الظانُّون وتنطق ألسنتهم بهذا الظنّ، أنّ هذه المنكرات التي نحاربها ونشتدُّ في حربها هي قليلة الخطر، ضعيفة الأثر، وأنّنا غلونا في إنكارها، وأنفقنا من الأوقات والجهود في حربها، ما كان حقيقاً أن يصرف في ناحية أخرى أهمّ، كالإصلاح العلميّ؛ وفات هؤلاء أنَّ اللوازم القريبة لتلك المنكرات التي تشتدُّ الجمعيّة في محاربتها التزهيدُ في العلم وإفساد الفطر وفشل العزائم، وقتل الفضائل النفسيّة، وإزالة الثِّقة بالنَّفس من النَّفس، وتضعيفُ المدارك وتخدير المشاعر، وهي رذائل لا تجتمع واحدة منها مع ملَكة علميّة صحيحة، فكيف بها إذا اجتمعت. فكان من الحكمة أن تبتدئ الجمعيّة بتطهير النُّفوس من

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير