وقد وافق محمد بن الحسن مالكا في طهارة بول ما يؤكل مستدلا بحديث العُرَنيين الذين وصف لهم الرسول الكريم شرب أبوال الإبل وألبانها، ليستشفوا بها، ولو كانت نجسة ما وصفها لهم دواء وشفاء، فإن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها. خلافا لأبي حنيفة وأبي يوسف. وحجتهما أنه استحال إلى نتن وخبث فيكون نجسا، كبول ما لا يؤكل لحمه. ولكنهما جعلاه من النجاسة المخففة لتعارض النصوص، ولعموم البلوى به.
ويدخل في ذلك: بول الفَرَس، ولعاب البغل والحمار، وخرء ما لا يؤكل لحمه من الطيور، كلها نجاسته مخففة، وحكم النجاسة المخففة: أن يعفى فيها عن ربع الثوب أو البدن.
وعند زفر: روث ما يؤكل لحمه طاهر.
وقال الحنفية: خرء ما يؤكل لحمه من الطيور كالحمام والعصافير طاهر، لإجماع المسلمين على ترك الحمام في المسجد، ولو كان نجسا لأخرجوه منه، وخصوصا في المسجد الحرام.
واستثني من هذه الطيور: الدجاج والبط الأهلي، فنجاستهما غليظة بالإجماع.
وأما بول وروث ما لا يؤكل لحمه: فنجاسته غليظة عند أبي حنيفة، لثبوته بنص لم يعارضه غيره، وهو قوله في الروثة " إنها رِكْس ". وعند أبي يوسف ومحمد: مخففة، لعموم البلوى به في الطرقات ووقوع الاختلاف فيه.
وعند الشافعية: الأبوال والأرواث كلها نجسة، سواء كانت مما يؤكل لحمه أم مما لا يؤكل لحمه، ونجاستها كلها عندهم غليظة، فلا يعفى عن شيء منها إلا ما يشق الاحتراز عنه.
وعند الحنابلة أكثر من رواية عن الإمام أحمد. ولكن الذي اعتمده شيخ الإسلام ابن تيمية ورجحه من بضعة عشر وجها هو: القول بطهارة بول وروث كل ما يؤكل لحمه.
ترجيح ابن تيمية لطهارة بول وروث ما يؤكل لحمه:
ونظرا لأهمية هذا البحث الذي فصل فيه ابن تيمية القول، وذكر فيه من الحجج ما يشفي الصدور، ويزيح كل شبهة، ننقل خلاصة أدلته هنا لتمام الفائدة:
الدليل الأول: أن الأصل الجامع طهارة جميع الأعيان حتى تتبين نجاستها، فكل ما لم يبيّن لنا أنه نجس فهو طاهر، وهذه الأعيان ـ بول وروث ما يؤكل لحمه ـ لم يتبين نجاستها، فهي طاهرة. .
الدليل الثاني: الحديث المستفيض الذي أخرجه أصحاب الصحيح وغيرهم: حديث أنس بن مالك: أن ناسا من عكل أو عُرينة قدموا المدينة، فاجتووها (شكوا من جوها) فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح (إبل) وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها… إلى آخر الحديث.
ووجه الحجة أنه أذن لهم في شرب أبوال الإبل، ولا بد أن يصيب أفواههم وأيديهم وثيابهم وآنيتهم، فإذا كانت نجسة وجب تطهير أفواههم وأيديهم وثيابهم للصلاة. وتطهير آنيتهم، فيجب بيان ذلك لهم، لأن تأخير البيان عن وقت الاحتياج إليه لا يجوز. ولم يبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه يجب عليهم إماطة ما أصابهم منه، فدل على أنه غير نجس.
الدليل الثالث: الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم وغيره من حديث جابر ابن سمرة وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الصلاة في مرابض الغنم، فقال: " صلوا فيها، فإنها بركة ". وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل: فقال: " لا تصلوا فيها، فإنها خلقت من الشياطين ". ووجه الحجة من وجهين:
أحدهما: أنه أطلق الإذن بالصلاة، ولم يشترط حائلا يقي من ملامستها والموضع موضع حاجة إلى البيان، فلو احتاج لبينه.
والوجه الثاني: أنها لو كانت نجسة كأرواث الآدميين لكانت الصلاة فيها: إما محرمة كالحشوش، والكُنُف، أو مكروهة كراهية شديدة، لأنها مظنة الأخباث والأنجاس. فأما أن يستحب الصلاة فيها ويسميها بركة، ويكون شأنها شأن الحشوش أو قريبا من ذلك، فهو جمع بين المتنافيين المتضادين، وحاشا الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك.
وأما نهيه عن الصلاة في مبارك الإبل، فلسبب اختصت به دون البقر والغنم والظِّباء والخيل، إذ لو كان السبب نجاسة البول، لكان تفريقا بين المتماثلين، وهو ممتنع يقينا.
¥