وروى الشافعي حديث أبي برزة في كتاب (اختلاف علي عبد الله!)، عن ابن عُلَيّة، عن عوف، عن أبي المنهال، عن أبي بَرزة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الصبح، ثم ننصرف وما يعرف الرجل منا جليسه.
قال البيهقي: هذا الكتاب لم يُقرأ على الشافعي، فيحتمل أن يكون قوله: (ومايعرف الرجل منا جليسه) وهما من الكاتب؛ ففي سائر الروايات: (حتى يعرف الرجل منا جليسه). انتهى. والكلام ما زال لابن رجب رحمه الله في فتح الباري:والظاهر: أن أبا برزة أراد أنَّ الرجل إنما كان يعرف جليسه إذا تأمل وردد فيه نظره.
ويدل عليه: أحاديث أخر، منها: حديث قيلة بنت مخرمة، أنها قدمت على رسولالله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي بالناس صلاة الغداة، وقد أقيمت حين انشق الفجر، والنجوم شابكة في السماء، والرجال لا تكاد تتعارف مع ظلمةالليل. خرجه الإمام أحمد.
وهو إخبار عن حال الصلاة دون الانصراف منها.
وروى أبو داود الطيالسي وغيره من رواية حرملة العنبري، قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فصليت معه الغداة، فلما قضى الصلاة نظرت في وجوه القوم، ما أكاد أعرفهم.
وخرج البزار والإسماعيلي من رواية حرب بن سريج، عن محمد بن علي ابن حسين، عن محمد بن الحنفية، عن علي بن أبي طالب، قال: كنا نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح، وما يعرف بعضنا وجه بعض.
حرب بن سريج، قال أحمد: ليس به بأس، ووثقه ابن معين. قال أبو حاتم: ليس بقوي؛ منكر عن الثقات.
وفي الباب أحاديث أخر". أهـ كلامه رحمه الله من فتح الباري.
فهذه الأحاديث التي أوردها ابن رجب رحمه الله مستفيضة في بيان الظلام بعد دخول وقت الفجر، وهذا الظلام في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لدرجة ألا يعرف الرجل جليسه دليل على أن ما ورد عن بعض السلف أن الخيط الأبيض هو بياض النهار أو أنه النور المنتشر في الجبال والبيوت ليس المقصود به أول وقت الفجر، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وينصرف وما زالوا في الغلس فيكون أول دخول وقت الفجر أجدر بصفة الغلس من آخره، ووقتٌ هذا حاله لا يمكن أن يكون وقت الإسفار أو ظهور الإحمرار في الأفق لأن ذلك متأخر عن أول وقت الفجر لا محالة. ومن ذلك أيضا ما رواه البخاري عن أنس، أن زيد بن ثابت حدثه، أنهم تسحروا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قاموا إلى الصلاة.
قلت: كم كان بينهما؟ قال: قدر خمسين أو ستين - يعني: آية.
قال ابن رجب:
"ومقصود البخاري بهذا الحديث في هذا الباب: الاستدلال به على تغليس النبي - صلى الله عليه وسلم - بصلاة الفجر؛ فإنه تسحر ثم قام إلى الصلاة، ولم يكنبينهما إلا قدر خمسين آية.
وأكثر الروايات تدل على أن ذلك قدر ما بين السحور والصلاة.
وفي رواية البخاري المخرجة في (الصيام): أن ذلك قدر ما بين الأذان والسحور.
وهذه صريحة بأن السحور كان بعد أذان بلال بمدة قراءة خمسين آية.
وفي رواية مَعْمَر: أنه لم يكن بين سحوره وصلاة الفجر سوى ركعتي الفجر، والخروج إلى المسجد.
وهذا مما يستدل بهعلى أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى يومئذ الصبح حين بزغ الفجر."أهـ كلامه.
والخلاصة أن الفجر فجران فجر صادق وفجر كاذب، وقدل خص الشيخ ابن عثيمين الفرق بينهما فقال رحمه الله:
"وذكر العلماء أن بينه - أي: الفجر الكاذب - وبين الثاني ثلاثة فروق:
الفرق الأول: أن الفجر الأول ممتد لا معترض، أي: ممتد طولاً من الشرق إلى الغرب، والثاني: معترض من الشمال إلى الجنوب.
الفرق الثاني: أن الفجر الأول يظلم، أي: يكون هذا النور لمدة قصيرة ثم يظلم،والفجر الثاني: لا يظلم بل يزداد نوراً وإضاءة.
الفرق الثالث: أن الفجر الثاني متصل بالأفق ليس بينه وبين الأفق ظلمة، والفجرالأول منقطع عن الأفق بينه وبين الأفق ظلمة.
وهل يترتب على الفجر الأول شيء؟ لا يترتب عليه شيء من الأمور الشرعيَّةأبداً، لا إمساك في صوم، ولا حل صلاة فجر، فالأحكام مرتبة على الفجرالثاني" انتهى.
من الشرح الممتع للشيخ ابن عثيمين رحمه الله. وإنما أطلنا النقل في بيان الطريق الثالثة للتأكيد على أنهم كانوا يستدلون على الأوقات بما يمكن تحسسه كرؤية بعضهم بعضا، وهي علامات مصاحبة للعلامات الأخرى وينبغي أن تستصحب عند تقرير المسألة ...
¥