أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَمْرَ بِالْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ نَسْخِ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ , أَوْ مُقَارِنٌ لَهُ ; بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَرَنَ الْأَمْرَ بِالْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ بِالنَّهْيِ عَنْ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ , وَهِيَ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ النَّسْخُ حَصَلَ بِهَذَا النَّهْيِ , وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِشَيْءٍ قَبْلَهُ ; فَإِنْ كَانَ بِهِ , فَالْأَمْرُ بِالْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ مُقَارِنٌ لِنَسْخِ الْوُضُوءِ مِمَّا غَيَّرَتْ النَّارُ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا بِهِ؟ وَمِنْ شُرُوطِ النَّسْخِ تَأَخُّرُ النَّاسِخِ , وَإِنْ كَانَ النَّسْخُ قَبْلَهُ , لَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْسَخَ بِمَا قَبْلَهُ.
الثَّانِي: أَنَّ أَكْلَ لُحُومِ الْإِبِلِ إنَّمَا نَقَضَ ; لِكَوْنِهِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ , لَا لِكَوْنِهِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ , وَلِهَذَا يَنْقُضُ وَإِنْ كَانَ نِيئًا , فَنَسْخُ إحْدَى الْجِهَتَيْنِ لَا يَثْبُتُ بِهِ نَسْخُ الْجِهَةِ الْأُخْرَى , كَمَا لَوْ حَرَّمَتْ الْمَرْأَةُ لِلرَّضَاعِ , وَلِكَوْنِهَا رَبِيبَةً , فَنَسْخُ التَّحْرِيمِ بِالرَّضَاعِ لَمْ يَكُنْ نَسْخًا لِتَحْرِيمِ الرَّبِيبَةِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ حديث جابر بن عبد الله عَامٌّ وَحديث جابر بن سمره والبراء خاص , وَالْعَامُّ لَا يُنْسَخُ بِهِ الْخَاصُّ ; لِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ النَّسْخِ تَعَذُّرَ الْجَمْعِ , وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ مُمْكِنٌ بِتَنْزِيلِ الْعَامِّ عَلَى مَا عَدَا مَحَلِّ التَّخْصِيصِ.
قال النووي:
وَأَمَّا النَّسْخُ فَضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ ; لِأَنَّ حَدِيثَ تَرْكِ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ عَامٌّ , وَحَدِيثَ الْوُضُوءِ مِنْ لَحْمِ الْإِبِلِ خَاصٌّ , وَالْخَاصُّ يُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ , سَوَاءٌ وَقَعَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ. [19]
الرابع: أن جَابِرٌ إِنَّمَا نَقَلَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: {أَنَّ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ} ; وَهَذَا نَقْلٌ لِفِعْلِهِ لَا لِقَوْلِهِ. فَإِذَا شَاهَدُوهُ قَدْ أَكَلَ لَحْمَ غَنَمٍ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ بَعْدَ أَنْ كَانَ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ صَحَّ أَنْ يُقَالَ التَّرْكُ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ وَالتَّرْكُ الْعَامُّ لَا يُحَاطُ بِهِ إلَّا بِدَوَامِ مُعَاشَرَتِهِ وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ بَلْ الْمَنْقُولُ عَنْهُ التَّرْكُ فِي قَضِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ.
الخامس: أَنَّ أَحَادِيثَ الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ لَمْ تَشْمَلْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا بِالتَّنْصِيصِ وَلَا بِالظُّهُورِ بَلْ فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ: (قَالَ لَهُ الرَّجُلُ أَنَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ؟ قَالَ: نَعَمْ) وَفِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ: (تَوَضَّئُوا مِنْهَا) فَلَا يَصْلُحُ تَرْكُهُ صلى الله عليه وسلم لِلْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ نَاسِخًا لَهَا ; لِأَنَّ فِعْلَهُ صلى الله عليه وسلم لَا يُعَارِضُ الْقَوْلَ الْخَاصَّ بِنَا وَلَا يَنْسَخُهُ بَلْ يَكُونُ فِعْلُهُ لِخِلَافِ مَا أَمَرَ بِهِ خَاصًّا بِالْأُمَّةِ دَلِيلَ الِاخْتِصَاصِ بِهِ.
وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُدَوَّنَةٌ فِي الْأُصُولِ مَشْهُورَةٌ وَقَلَّ مَنْ يَتَنَبَّهُ لَهَا مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي مَوَاطِنِ التَّرْجِيحِ , وَاعْتِبَارُهَا أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ وَبِهِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي تُعَدُّ مِنْ الْمَضَايِقِ. [20]
- وأما كون الأمر يحمل على الاستحباب فَمُخَالِفٌ ِلظَّاهِرِ النصوص مِنْ وجوه:
أَحَدُهَا , أَنَّ مُقْتَضَى الْأَمْرِ الْوُجُوبُ.
الثَّانِي , أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ حُكْمِ هَذَا اللَّحْمِ , فَأَجَابَ بِالْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ مِنْهُ فَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ الْوُجُوبِ ; لِأَنَّهُ يَكُونُ تَلْبِيسًا عَلَى السَّائِلِ , لَا جَوَابًا.
¥