كُن مبارَِكاً
ـ[ذو المعالي]ــــــــ[17 - 06 - 02, 08:49 م]ـ
كُن مُبَارَكاً
(البركة) خيرٌ دائم.
فكلٌّ يرغب بها، و يتمنى (البركة) في أحواله و أيامه.
لكن كون المرء ذاته يكون هو (البركة) مما يُسْتَغْرَب و يُتَعَجَّبُ منه.
و لا عَجَب إذ كان عيسى ابن مريمَ قد قال _ كما حكى الله عنه _: {و جعلني مباركاً أينما كنت}.
و المعنى: معلِّمَاً للخير.
و كل ما قيل في المعنى فهو عائدٌ إلى هذا.
فأخبر عيسى _ عليه السلام _ عن كينونته مبارَكَاً أينما كان.
و مما لا شكَّ أن كلاَّ يرغب في صيرورته مبارَكَاً في المكان الذي هو فيه، و المجتمع الذي يعيشه.
و لقد كشَف ابن القيِّم عن عملِ (المُبَارَك) فقال: (فإن بركة الرجل تعليمه للخير حيث حلَّ، و نصحه لكل من اجتمع به، قال الله _ تعالى _ إخباراً عن المسيح: {و جعلني مباركاً أينما كنت} أي: معلماً للخير، داعياً إلى الله، مرغباً في طاعته.
فهذه من بركة الرجل، و من خلا من هذا فقد خلا من (البركة)، و مُحْقَتْ بركة لقائه و الاجتماع به، بل تُمْحَقُ بركة من لَقِيَه و اجتمع به)
انظر: رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه؛ ص 5.
و (البركة) إذاً أنواع متنوِّعة، و أقسامٌ شتى، يجمعها أمورٌ:
الأول: (البركة) في النفس.
و لا يستريب عاقلٌ أن مراعاة المرء (البركة) في نفسه، وتربيتها و تنميتها أولى من مراعاتها في غيره.
و (البركة) في النفس تشملُ أصولاً ثلاثاً:
الأول: (البركة) في الإيمان.
و أعني بها: القُرُبات و الصالحات. (البركة) فيها حِرْصُ المرء على أن يكون من أهل الطاعات و الصالحات، ذا برٍّ و تُقى.
الثاني: (البركة) في العلوم.
و المعني: تنمية العقل و الذهن بما ينفعه من العلم.
الثالث: (البركة) في التعامل.
و هو فيما يتعلَّق بجانب الخُلُق، و الأدب.
و هذه الأصول جوامعُ (البركة) في نفس الرجل.
الثاني: (البركة) في المكان.
لا يخلو المرء من مكان يقطنه، و أرض يطأها، و الناس في ذلك أبناءُ عِلات _ تجمعهم طبيعة الركون إلى الأرض، و يختلفون في أجناس الأراضين _.
و المُوَفَّقُ من كان في الأرض الحالِّ بها (مُبارَكاً) و (مُبَارِكَاً) فيها.
و كونه (مُبارِكاً) فيها أي: أن يكون آتياً بأعمالٍ ثلاث:
الأول: ناشراً عِلماً مُهْمَلاً.
الثاني: مُحْيياً طاعةً مُمًاتةً.
الثالث: نافياً معصيةً.
و لابدَّ من كونه ذا:
· حكمةٍ في التبيلغ.
· علمٍ فيما يدعو إليه.
· رحمةٍ بمن جانب طريق الطاعات.
الثالث: (البركة) في الزمان.
هذا ظرفٌ ثانٍ يكتنف الناس، و إيجادُ (البركة) فيه من جهة أن يكون الزمان محلاً مناسباً لإيجاد (البركة) فيه.
و الأزمنة أقسام:
الأول: أزمنة خاصة؛ فيُرَاعى فيها ما يليق بمن هي خاصةٌ به.
فمثلاً: الإجازات؛ زمانٌ خاصٌّ، فكلُّ واحد له عملٌ في زمنه.
فيأتي (المُبارَك) فيجعل زمن المرء (مُبارَكاً) بدلالته على أسنى درجات استغلاله، و أعلى أحوال الانتفاع به.
و الناس مختلفون في الإجازة فمنهم من يستغلها في: علم، دعوة، عملٍ، سفرٍ.
فيُعطى كلٌ بحسب ما يناسبه.
الثاني: أزمنة عامة.
و هي الأزمنة التي تُشغلُ أقواماً و فئاتٍ من الناس.
و (المُبارَكةُ) فيها بإشغال الناس بما يتوافق مع حقيقة وضع ذاك الزمن.
ففي مناسبات (الجهاد) يكون حديث (المُبارَك) عن: أحكام الجهاد، و أسراره، موارد النصر، و ... و ... .
و ليس من (المبارَكة) أن يُغْفَلَ حديث الساعة و يُشْغَلُ الناس بحديث مُجانِبٍ لما هم فيه.
و السرُّ الجامع لـ (البركة) أن يكون (المُبارَكُ) عارفاً بوظيفة الوقت، و هي: (العمل على مرضاة الربِّ في كل وقت بما هو مُقتضى ذلك الوقت و وظيفته). أهـ[المدارج 1/ 109]
و هو ما سبق أن بينته في ثنايا الكلام.
و أسَفٌ أن تَلْقَ (المُبارَك) نادراً في زمانه، و حيداً في مكانه، مُهْمَلاً من أخدانه ...
و إن كان موجوداً فإنه على قلَّة، و التأريخُ مليء بأخبار (المبارَِكين) منهم على سبيل التمثال لا الحصر:
1 - الإمام أحمد بن حنبل _ رحمه الله _، فإن الناظر في سيرته يرى أنه ما كان في أرض و لا في زمان إلا و هو ناشراً خيراً، و مُظْهِراً طاعة.
و لكَ أن تنظر شأنه في المحنة فإنه لما عَلِمَ أن ذاك زمانٌ لابدَّ فيه من إظهار الحق، و الجلَدِ في تبيانه كان منه ما كان.
2 - شيخ الإسلام ابن تيمية الحرَّاني _ رحمه الله _ و شأنه معروف مشهور.
و حاله في موقفه مع أهل البدع، و حاله في ساحات العراك مع التتر، و تربيته لطلابه، و نفيه من بلاده ... .
تراه في كل ذلك يعيش عملاً يتناسب مع حاله و زمنه.
3 - الشيخ عبد العزيز ابن بازٍ _ رحمه الله _ و هذا مدرسة (مبارَِكة) متكاملة.
و من عرفه عرف أبعادَ ما أقولُ.
و ختماً أبوح بنداءٍ لعلَّ هناك من يسمع دويَّه فأقول:
ألا لا يلعبنَّ بنا الهم، و لا يعبثنَّ بنا الشيطان صرْفاً عن إدراك مكنونات (البركة)، و ظَفَرَاً بنا في ساحات (المحق) و الصدِّ عن العمل للدين.
و لِيَعْلَمَ كلٌّ أن (البركة) سائرةٌ، و أن (المُبارَِك) لا تخلو منه أمكنة و لا أزمنة، و أن كلاًّ فيه من (البركة) ما كتب الله له، و لكن الموفَّق أظهره الله، و الآخر إما أنه أهملها _ الرجل نفسه _ أو أن الله حرمه (البركة).
و الاستسلام لأوهام (المحق) حاجبٌ لأنوار (البركة).
جعلني الله و إياكم مبارَِكين أينما كنا، و أن يجعلنا ممن إذا أعطيَ شكر، و إذا ابتليَ صبر، و إذا أذنب استغفر.
كتبه
ذو المعالي
6/ 4/1423هـ
¥