وهو قول لأبي حنيفة، فقد روى علي بن عاصم عن أبي حنيفة أنه قال: " لا أرى بأسًا إذا زنا الرجل بالمرأة فحملت منه أن يتزوجها مع حملها، و يستر عليها، و الولد ولد له ". وهو قول الحسن البصري حيث ذكر أنه قال: " يلحق بالزاني إذا أقيم عليه الحد و يرثه ".
و قال فقيه الكوفة إبراهيم النخعي: " يلحق بالزاني بأحد أمرين؛ إن أقيم عليه الحد، أو ملك الموطوءة بالزواج أو ملك اليمين ".
و كان إسحاق بن راهويه يذهب إلى أن المولود من الزنا اذا لم يكن مولودا على فراش يدعيه صاحبه وادعاه الزاني ألحق به وأول قول النبي صلى الله عليه و سلم: الولد للفراش على أنه حكم بذلك عند تنازع الزاني وصاحب الفراش.
و رجح هذا القول ابن تيمية رحمه الله، فقد جاء في الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية تأليف البعلي (ص400) ما نصه: و إن استلحق ولده من الزنا ولا فراش لحقه، و هو مذهب الحسن و ابن سيرين و النخعي و إسحاق.
و جاء في مجموع الفتاوى لابن تيمية -رحمه الله- (32/ 113): إن لم تكن المرأة - أي المزني بها - فراشاً قولان للعلماء، و النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الولد للفراش و للعاهر الحجر". فجعل الولد للفراش دون العاهر، فإن لم تكن المرأة فراشاً لم يتناوله الحديث، و قد ألحق عمر أولاداً ولدوا في الجاهلية بآبائهم، و ليس هذا موضع بسط المسألة. اهـ
و تبعه تلميذه ابن القيم رحمه فقال في " الزاد " (5/ 374): و هذا المذهب كما تراه قوة و وضوحا، و ليس مع الجمهور أكثر من " الولد للفراش ". و صاحب هذا المذهب أول قائل به، و القياس الصحيح يقتضيه؛ فإن الأب أحد الزانيين، و هو إذا كان يلحق بأمه و ينسب إليها و ترثه و يرثها و يثبت النسب بينه و بين أقارب أمه مع كونها زنت به، و قد وجد الولد من ماء الزانيين، و قد اشتركا فيه و اتفقا على أنه ابنهما، فما المانع من لحوقه بالأب إذا لم يدعه غيره.اهـ
و ارتضاه بعض الحنابلة، ففي " الفروع " لابن مفلح (5/ 402): و اختار شيخنا أنه إن استلحق ولده من زنا و لا فراش لحقه. و نص أحمد فيها: لا يلحقه هنا. و في (الإنتصار): في نكاح الزانية يسوغ الإجتهاد فيه، و فيه أيضا: يلحقه بحكم حاكم. اهـ
و دليل هؤلاء:
- ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: «كان رجل من بين إسرائيل يقال له جريح يصلي فجاءته أمه فدعته فأبى أن يجيبها فقال: أجيبها أو أصلي؟ ثم أتته فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه المومسات وكان جريج في صومعته فقالت امرأة: لأفتنن جريجا فتعرضت له فكلمته فأبى فأتت راعيا فأمكنته من نفسها فولدت غلاما فقالت: هو من جريح فأتوه وكسروا صومعته فأنزلوه و سبوه فتوضأ و صلى ثم أتى الغلام فقال: من أبوك يا غلام؟ قال: الراعي قالوا: نبني صومعتك من ذهب قال: لا من طين»
قالوا: فهنا نسب ابن الزنا للزاني و صدّق الله نسبته بأن أنطق الصبي بذلك وأخبر بذلك النبي في معرض المدح و إظهار الكرامة. فالنسبة صحيحة شرعا، وهو من شرع من قبلنا، و هو حجة في شرعنا ما لم يرد ما يخالفه. قال ابن القيم في " الزاد " (5/ 426): و هذا إنطاق من الله لا يمكن فيه الكذب. اهـ
- قياس نسبة ولد الزنا لأبيه على نسبته لأمه فهو ينسب لأمه باتفاق أهل العلم فكذا ينسب لأبيه فهما مشتركان في الزنا ولا فرق.
الترجيح:
تبين من ما مضى أن أشهر حديث بالباب، وهو قول النبي ?: «الولد للفراش و للعاهر الحجر»، ليس فيه دلالة صريحة على جواز إلحاق ولد الزنا بالزاني عند عدم الفراش و لا على عدم جوازه؛ لأنه حكم في واقعة معينة يجري على مايشبهها من الوقائع، وهي حالة وجود الفراش الشرعي.
و لاشك أن الشارع الحكيم متشوِّف لإلحاق الإنساب، و هذا الأمر من مقاصد الشريعة المعروفة عند أهل العلم، فلا يسأل مستلحق لولدٍ مجهول النسب عن سبب استلحاقه، بل يعامل على الأصل و هو تقدير السلامة، و يترتب على هذا الأمر – و هو تشوف الشارع لإلحاق الأنساب - أن ينسب كل ولد مجهول النسب إلى مدعيه مطلقاً و يعتبر هو الأصل إلا إن امتنع إلحاقه بذلك المدعي عقلاً أو شرعاً، فالذي يمتنع عقلا هو استلحاق الشخص لمن هو أكبر منه أو مساوٍ له أو أصغر منه بقدر يسير أقل من عمر من يتصور منه الوطء والإنزال.
أما الذي يمتنع شرعاً فهو ما ورد به النص الصحيح بمنع النسب صريحاً كمنع استلحاق الزاني للولد في حالة الفراش.
فيبقى مدار المسألة على وجود النص الواضح الصحيح في منع إلحاق الولد بالزاني في هذه الحالة أو عدم الوجود، فعند وجود هذا النص فلا يصار إلى غيره، و عند عدم وجوده فالأصل المترجح هو الإلحاق لعدم المانع الشرعي والعقلي، ولمصلحة الولد الظاهرة.
وأقوى ما استدلوا به حديث عبد الله بن عمرو. و قد انفرد بروايته ثلاثة على نسق واحد وصفوا بقلة الضبط، و هم: عمرو بن شعيب، و محمد بن راشد المكحولي، وسليمان بن موسى الدمشقي، و مثل هؤلاء لا يحتمل الأئمة تفردهم بالأصول. ولو قُدِّر ثبوت الحديث فإنه يحتمل أن يكون المراد به استلحاق ولد الزنا في حال كون أمه فراشًا لزوج أو سيد.
و عليه، فإن الراجح و الله أعلم قول من قال بجواز انتساب ولد الزنا بالزاني إذا استلحقه، ولم تكن أمه فراشًا لزوج أو سيد. لأن في ذلك حفظا لنسب هذا الولد، وحماية له من التشرد والإنحراف، خصوصًا أنه لا ذنب له، فلا ينبغي أن يعاقب بجريرة غيره. كما أن في هذا القول سترًا لأعراض الناس، وتشجيعًا لهم على التوبة والإستقامة.
¥