وما أجملَ ما رواهُ الإمامُ أبو داودَ في «سُننه» (4614) -بالسندِ الصحيح- عن الإمام عُمر بن عبد العزيز -رحمه الله-، أنَّه قال:
«فارْضَ لنفسِك ما رَضِيَ به القومُ لأنفُسِهم؛ فإنَّهُم على علمٍ وَقَفُوا، وببَصرٍ نافِذٍ كُفُوا.
ولَهُم على كَشْفِ الأُمور كانوا أقْوَى، وبفضلِ ما كانوا فيه أوْلَى».
(تنبيهٌ ثالثٌ):
وما وَرَدَ في الحديثِ الصَّحِيحِ: -الآنِفِ الذِّكْرِ: «للهِ عُتَقاءُ مِن النَّار» - إنَّما هُو وَفْقَ علمِ الله -تعالى- فيمن يستحقُّ النَّار -عِياذاً بالله-؛ لا بحسب ظُنونِ خَلْقِهِ!
فمِن اليَقين: أنَّهُ ليس (كُلُّ) عبادِ الله مِن أهلِ استحقاقِ دُخول النَّار؛ ليكونوا -بَعْدُ- عُتقاءَ منها! ...
إذِ الأصلُ في العبدِ المُوَفَّقِ لطاعةِ مولاه: تحسينُهُ ظَنَّهُ بربِّهِ العظيم؛ كما صحَّ في الحديثِ القُدُسِيِّ: «أنا عند ظنِّ عبدِي بي: إنْ خيراً؛ فخيرٌ، وإنْ شرًّا؛ فشرٌّ» [«السلسلة الصحيحة» (1663)].
ومِن لطائِفِ التوفيقِ الإلهِيِّ: أنَّ آخِرَ حديثٍ في كتابِ «حُسْنِ الظنّ بالله» (150) -للإمام ابن أبي الدُّنيا- هو حديث: «إن لله عُتقاء من النار ... » ...
وما استدلَّ به بعضُ أفاضل أهل العِلْم -رحمهُمُ اللهُ- تجويزاً لهذا الدُّعاء! - مِن حديث أبي هُرَيْرَةَ، عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَن أَعْتَقَ رَقَبَةً مؤمنةً؛ أعْتَقَ اللهُ مِنْهُ بكلِّ عُضْوٍ منهُ عُضواً مِن النَّار» [مُتَّفَقٌ عليه. «إرواء الغليل» (1742)]؛ فهو لا يخرُجُ عمَّا ذَكَرْتُهُ -ألْبَتَّة-!
وبيانُهُ مِن وَجْهَيْنِ:
الأوّل: أنَّ هذا الحديثَ -أيضاً- موصولٌ بعِلْمِ الله -تعالى- في هؤلاء المُعتَقِين، وليس ذا صِلَةٍ -بأيِّ وجهٍ مِن الوُجوه- بعلمِ العبدِ نفسَهُ أنَّهُ يُعْتَق -أو سَيُعْتَق- مِنْهُ!
الثاني: أنَّ الحديثَ واردٌ فيمن (استحقَّ دُخولَ النَّار) -وهذا مِن عِلْمِ العظيمِ الجَبَّار- سُبحانَهُ- وَحْدَهُ-.
وقد دلَّ على ذلك روايةٌ عند البخاريِّ -رحمهُ اللهُ- للحديثِ نفسِهِ- فيها قولُهُ -صلى الله عليه وسلم-: « ... اسْتَنْقَذَ اللهُ بكلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضواً مِن النَّارِ ... »:
فقد قال العَلامةُ الصَّنْعانِيُّ في «سُبُل السَّلام» (4/ 426) -شارحاً هذا الحديثَ-:
«وفي قولِهِ: «استَنْقَذَ» ما يُشْعِرُ بأنَّهُ بعد استحقاقِهِ لها».
وأمَّا الاعتراضُ على أصل الاستدلال بهذا الأثر السلفيِّ -على مقصودِهِ- بما صحَّ عن نبيِّنا -صلى الله عليه وسلم- مِن وصفِهِ سيِّدَنا أبا بكرٍ الصدِّيقَ -رضي الله عنهُ- بأنَّهُ: «عتيق الله مِن النار» [«السلسلة الصحيحة» (1574)]؛ فهو اعتراضٌ ليس قائماً؛ لسبَبَيْن:
الأوَّل: أنَّ هذا الوصفَ قد يَرِدُ بحَسَبِ الاستحقاقِ -حُكماً-، وقد يَرَدُ -أيضاً- باعْتِبارِ حقيقةِ الدُّخُول -واقِعاً-؛ وفي كُلٍّ وَرَدَ النصُّ النبويُّ:
- أمَّا الاستحقاقُ الحُكْمِيُّ؛ فحديثُ أبي بكرٍ -هذا- واضحٌ في مقصودِهِ.
ومِثْلُهُ -تماماً- الأحاديثُ المذكورةُ -قبلاً-.
- وأمَّا بحَسَبِ حقيقة الدُّخُول -واقعاً- مع اتِّحادِ اللّفظِ النبويِّ-؛ فما وَرَدَ في حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ -في وَصْفِ الجهنَّمِيِّين -عند الإمامِ مُسلم في «صحيحِه» (302) عنه -صلى الله عليه وسلم-: «عُتقاء الله».
وروايةُ الإمام البخاريّ (7001) بلَفْظِ: «عُتقاء الرحمن».
قال ابنُ الجوزي في «صيد الخاطر» (ص307) -في وَصْفِ حالِ هؤلاء (الجهنَّمِيِّين) -:
«أَزْرَى بهم اتِّباعُ الهَوَى، ثُمَّ لَحِقَتْهُمُ العافيةُ؛ فنَجَوْا بعدَ لأْيٍ» -ربِّ سلِّم سلِّم-.
الثاني: أنَّ ما يتميَّزُ به أبو بكرٍ الصدِّيق -رضي الله عنه- في هذه الخَصِيصَةِ- عن باقي الأُمَّة -جميعاً- أنَّهُ أوَّل مَن أسلمَ -رضي الله عنهُ-[«مجموع الفتاوى» (4/ 462)، و «أحكام أهل الذِّمَّة» (2/ 905)]؛ فكان هذا المَدْحُ النبويُّ له -رضي الله عنهُ- لهذا المعنى؛ وباعتبارِ ما كان عليهِ -رضي الله عنهُ- قبل بعثتِهِ -صلوات الله وسلامُه عليه-.
¥