وأمَّا الاستدلالُ بحديثِ أبي هريرةَ، عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما مِنكُم مِن أحدٍ إلا وله منزِلان: منزلٌ في الجنَّةِ، ومنزلٌ في النار؛ فإنْ ماتَ ودَخَلَ النَّارَ؛ وَرِثَ أهلُ الجنَّةِ منزلَهُ؛ فذلك قولُهُ: {أولئك هم الوارِثُون}» [«السلسلة الصحيحة» (2279)]:
فقد رواهُ البخاريُّ (6200) عنهُ -رضي اللهُ عنهُ- بلفظ: «لا أحدَ يدخُلُ الجَنَّةَ إلاّ أُرِيَ مقعدَهُ مِن النَّارِ لو أساءَ؛ ليزدادَ شُكراً، ولا يدخُلُ النَّارَ أحدٌ إلاّ أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِن الجنَّةِ لو أحسنَ؛ ليكونَ عليه حسرةً».
وعليهِ؛ فما قيلَ في هاتيك الأحاديث -مِن جهةِ الاستحقاقِ الحُكْمِيِّ- يُقال في هذا الحديث -سواءً بسواءٍ-؛ فهو على وَفْقِ عِلْمِ الله -عزَّ وجَلَّ-؛ كما وَرَدَ عن محمد بن النَّضْر الحارِثِيّ -وقد قال فيه عبدُ الرحمن بن مهدي: ما رأيتُ مثلَهُ في الصلاح. «العلل» (1119) -للإمام أحمد- توفي قبل سنة 150هـ-، أنَّهُ كَتَبَ إلى أخٍ له:
«أمَّا بعدُ؛ فإنَّك في دار تمهيد، وأمامَكَ منزلان؛ لا بُدَّ مِن أن تسكُنَ أحدَهُما، ولمْ يأْتِكَ أمانٌ فتطمَئِنَّ، ولا براءةٌ فتُقَصِّر.
والسلام» [«اقتضاء العلم العمل» (رقم:161)].
(تنبيهٌ رابعٌ):
أمَّا التساؤُل عن حُجِّيَّةِ (قولِ!) التابعين؛ فليس وارداً -ها هُنا- بحثُهُ؛ لأنَّ كراهيَّتهم -هذه- رحمهُمُ اللهُ- هُنا- مبنيَّةٌ على (فَهْمٍ) سديدٍ لِنَهْجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- في الدُّعاءِ؛ يلتقي أصلاً شرعيًّا عظيماً هو حُسنُ الظنِّ بالله -تعالى-؛ مع ضميمةِ استحضارِ المعنى الغَيْبِيِّ لاستِحْقاقِ النَّارِ، ودُخولها -كما تقدَّم- ...
وما أثرُ عُمَر بن عبد العزيز عنّا ببعيدٍ!
فيُخْشَى -أُكَرِّرُ: يُخْشَى! - على مُخالِف هذا المعنى الإيجابيِّ الدخولُ في (بعضِ!) ما يدلُّ عليه قولُ الله -عزَّ وجَلَّ-: {أتستبدلونَ الذي هُو أدْنَى بالذي هو خيرٌ}؟!
وعليه؛ فلا خَلَلَ -كما قالَ بعضُ الحريصين- في استخراجِ معانٍ صحيحةٍ، أو استنباطِ ألفاظٍ فصيحةٍ ممّا وَرَدَ في الكتابِ الكريمِ، أو في سُنَّةِ النبيِّ العظيمِ -صلى الله عليه وسلم-؛ بشرطِ أن لا تُخالِفَ -أو على الأقل: تبدُو مُخالِفةً! - لِنَصٍّ شرعيٍّ- كتاباً أو سُنَّةً-.
وأخيراً:
ما قيلَ في «اللهمَّ أعْتِقْنِي مِن النَّار» يُقال -هُو نَفْسُهُ- في: «اللهمَّ زَحْزِحْنِي عَنِ النَّار» -سواءً بسواءٍ-؛ فكأنَّ العبدَ -بهذا الدُّعاءِ الأخيرِ! - على أبوابِ النِّيران! ويسألُ ربَّهُ أنْ يُزَحْزِحَهُ (!) عنها!!
فأينَ هذا مِن قولِه -صلى الله عليه وسلم-: «إذا سألتُمُ اللهَ فاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ؛ فإنَّهُ أوْسَطُ الجَنَّةِ، وأعْلَى الجَنَّة»؟! -[«البخاري» (2637]؛ «فإنَّ اللهَ لا مُكْرِهَ لهُ»، [رواهُ البخاريُّ (5980)، ومسلم (2679)]-، وقولِهِ -صلى الله عليه وسلم-: «إذا دَعَا أحدُكُم فلا يَقولُ: إنْ شئتَ؛ ولْيَعْزِم المسألةَ، ولْيُعَظِّم الرَّغْبَةَ؛ فإنَّ اللهَ لا يَعْظُمُ عليه شيءٌ أعطاه» [«صحيح الأدب المفرد» (607)].
(تنبيهٌ خامس):
أوَّلَ ما وَقَفْتُ على هذا الأثر -للتَّاريخِ، وأداءً لأمانةِ العِلْمِ-: كان مِن خلالِ مُلاحظةٍ دقيقةٍ مكتوبةٍ على الغلافِ الداخليِّ لِنُسخةِ شيخِنا الألبانيِّ مِن كتابِ «الحِلْيَة» -بخطِّهِ- رحمهُ اللهُ- مُشيراً إليه-، وذلك قبل أكثر مِن عشر سنوات -مكتبتِهِ الخاصَّة -رحمهُ الله-.
(تنبيهٌ سادس):
يُتَلَطَّفُ في بيانِ هذه المسألةِ -جِدًّا-؛ لِغَرابَتِها -أوَّلاً-، ولِفَضْلِ (الرِّفْق) -ثانِياً- مِن غير نكيرٍ ولا تشديد ...
(تنبيهٌ أخيرٌ):
حُقَّ لهذا الدُّعاءِ أنْ يُلْحَقَ بـ «المناهي اللَّفْظِيَّة»، أو «تصحيح الدُّعاء»، أو هُما -معاً-!
وبَعْدُ:
فَإنِّي على شِبْهِ اليقينِ أنْ لو وَقَفَ ذلك العالمُ الفاضلُ -وغيرُهُ مِمَّن تابَعَهُ! - على هذا الأثر السلفيِّ الجَلِيلِ -لأمْسَكَ -رحمهُ اللهُ- وأمسكوا - عنْ مثلِ هذا الاستدلالِ.
واللهُ المُستعان.
ـ[أبو صهيب عدلان الجزائري]ــــــــ[11 - 09 - 10, 12:58 ص]ـ
فائدة:
قد كره بعض السلف هذا الدعاء على معنى آخر غير الذي ذكر
فأخرج الطحاوي في شرح مشكل الآثار ثنا روح بن الفرج ثنا يوسف بن عدي
وأخرجه أبو نعيم في الحلية ثنا أبو بكر بن مالك ثنا عبد الله ثنا أحمد بن محمد قالا ثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم عن أبي وائل أنه كان يكره أن يقول الرجل اللهم أعتقني من النار فإنه إنما يعتق من رجا الثواب أو تصدق علي بالجنة فإنه يتصدق على من يرجو الثواب.
وهذا إسناد لا بأس به
قال الطحاوي: كره قوم أن يقول الرجل اللهم أعتقني من النار وقالوا إنما يضاف العتاق إلى من يرجى له الثواب ...
قالوا: والله عز وجل متعال عن ذلك وخالفهم في ذلك آخرون فلم يروا بذلك القول بأسا وكان من الحجة لهم عليهم في ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قد رويناه فيما تقدم منا في كتابنا هذا " من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار " ففي ذلك إضافة رسول الله صلى الله عليه وسلم العتاق من النار إلى الله عز وجل , وفي جواز ذلك منه صلى الله عليه وسلم ما ينطلق للمسلمين أن يدعوه به، وبالله نسأله التوفيق اهـ
أقول: قوله " وخالفهم في ذلك آخرون فلم يروا بذلك القول بأسا " مؤذن أن المخالف من السلف أيضا لأنه في مقابل قول أبي وائل فأرجو أن يكون الأمر في ذلك واسعا والله أعلم
¥