وسأل محمد بن سيرين عَبِيْدَةَ السلماني عن آية من القرآن فأجابه بقوله: " ذهب الذين كانوا يعلمون فِيْمَ أُنْزِلَ القرآن. فاتق الله، وعليك بالسداد. (12)
وهذا إبراهيم النخعي يقول: كان أصحابنا – يعني أصحاب ابن مسعود كعلقمة والأسود وغيرهم من أصحاب ابن مسعود – يتقون التفسير ويهابونه. (13)
وقال الشعبي رحمه الله: والله ما من آية إلا وقد سألت عنها، ولكنَّها الرواية عن الله عز وجل. (14) وقال ابن مسروق: اتقوا التفسير، فإنما هو الرواية عن الله. (15)
وهذا شيح الإسلام ابن تيمية مع تَبَحُّرِهِ في العلم وسعة اطلاعه حتى إنه إذا سُئل عن فن ظن الرائي والسامع أنه لا يَعرف غير ذلك الفن، وحَكَم بأن لا يعرفه أحد مثله، وله يد طُولَى في التفسير مع قوة عجيبة في استحضار الأدلة من الكتاب والسنة (16)، فمع هذا كله كان رحمه الله يقول: ربما طالعت الآية الواحدة نحو مائة تفسير، ثم أسأل الله الفهم وأقول: يا معلم آدم وإبراهيم علمني، وكنت أذهب إلى المساجد المهجورة ونحوها وأُمَرِّغ وجهي في التراب، وأسأل الله تعالى وأقول: يا معلم إبراهيم فهمني. (17)
وهذا طرف يسير من شدة تحرزهم في الكلام على التفسير، وأما ما ورد عنهم من عظم الورع في الفتيا والجواب على المسائل الموجهة إليهم فهذا أمر يطول وصفه ولا تحتمله هذه المقدمة. (18)
وبعد هذا أقول: أين حال هؤلاء المجترئين على الله تعالى من حال هؤلاء السلف رضي الله عنهم؟
وأما الرد على مضمون تلك الورقة المشار إليها فمن ثمانية أوجه هي:
الأول: أن مدار هذه الفرية يعود إلى ما يسمونه بـ (الإعجاز العددي في القرآن).
وهذا النوع من الإعجاز باطل جملة وتفصيلا، إذ لم يكن معهوداً لدى المخاطبين بالقرآن من أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم الأمة بكتاب الله، وأبرها قلوباً، وأكثرها صواباً، فلم يُنقل عن أحد منهم بإسناد صحيح شيء من هذا القبيل إطلاقا، ولو كان هذا من العلم المُعتبر لكانوا أسبق الناس إليه، وأعلم الأمة به، وذلك أن هذا الأمر لا يتطلب آلات وتقنيات حتى يتمكن الإنسان من اكتشافه، وإنما هو مجرد إحصاء وعدد، وهذا أمرٌ لا يُعْوِزُ أحداً، وقد عَدَّ السلفُ جميع كلمات القرآن، وجميع حروفه، وعرفوا بذلك أعشاره، وأرباعه، وأثلاثه، وأخماسه، وأسداسه، وأسباعه، وأثمانه، وأتساعه، وأنصاف ذلك كله، وغير ذلك بدقة متناهية كما هو معروف في محله. (19)
فكيف خفي عليهم هذا العلم جملة وتفصيلا وعرفه من بعدهم؟
هذا لا يكون أبداً، وما يذكره بعضهم من أمثلة على هذا الإعجاز المزعوم كثير منه لا يصح فيه العد أصلاً – كما في موضوعنا هذا كما سيأتي – وما كان العَدُّ فيه صحيحاً فإن ما يُذكر معه إنما هو من باب الموافقة والمصادفة، ولا يَعْجَزُ الإنسان إذا أحصى أموراً كثيرة مما ورد في القرآن – مثلاً – كعدد المرات التي ذُكرت فيها الجنة، والنار، والبر، والأبرار، والخير، والشر، والنعيم، والجزاء، والعذاب، والمحبة، والبغض، والكفار، وأصحاب الجنة، وأصحاب النار، والمؤمنون، والكفار، والمنافقون، والكفر، والإيمان، والنفاق ... إلخ.
فإذا أحصيت ذلك كله ستجد أشياء منه تستطيع أن تلفق منها بعض الفِرَى، فقد تتساوى بعض الأعداد، أو يكون بعضها على النصف بالنسبة لغيره، وهكذا مما لا يعجز معه أهل التلبيس من إيجاد وجوه للربط بينها يطرب لها بعض السذج والمغفلين.
وليس المقصود هنا التفصيل فيما يُسمى بـ (الإعجاز العددي) وإنما المقصود الإشارة إلى بطلان هذا الأمر الذي تدور حوله تلك الورقة المشار إليها. (20)
الثاني: زعم هذا الكاتب أن رقم السورة - وهو تسعة – موافق للشهر الذي وقع فيه الحدث، وهو الشهر التاسع.
¥